حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب، ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله تعالى في عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات.
ثم صدر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد، والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام (١٥٦) ، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون الناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الدين، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقا على خلق الله، ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من لم يستصوب الخض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة، والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه الى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك
(١٥٦) علم الكلام: هو علم العقيدة والتوحيد، وقد سمي بعلم الكلام لما أضيف إليه من مباحث جدلية، يعتمد فيها الباحثون في مسائل العقيدة إلى ذكر شبهات المخالفين وتفنيدها.