ذكرنا في مبحث أنواع الفروق بين المصطلحات والقواعد الأصولية، النطاق الذي يدور حوله الكلام عنها، وعرفنا أن من الممكن أن نجدهافي مجالين، مجال التفريق بين معاني المصطلحات بما يميز بعضها عن بعض بالوصف تارة، وبالتعريف تارة، وبالتقسيم أو غيره تارةً أخرى. أو في مجال التفريق فيها عن طريق التفريق بين الأحكام المترتبة عليها. ولا يعني هذا انعدام التصريح بالفرق في أحيانٍ قليلة.
وعلى هذا فمن الممكن القول: إن نشأة الكلام عن الفروق الأصولية هو نشأة الكلام في المجالين السابقين، ويغلب أن يكون ذلك بعد استقرار علم أصول الفقه، وانتشار التمذهب، واتساع نطاق الجدل في ذلك. وهو أمر اتضحت سماته، ونضجت مباحثه في القرن الرابع الهجري، وازداد ذلك وضوحاً ونضوجاً في القرن الخامس الهجري وما بعده.
ولكن مع ذلك ظهرت بوادر له قبل هذه الفترة، وعلى وجه تقريبي في القرن الثاني الهجري. ففي رسالة الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) - رحمه الله- شواهد متعددة على ذلك، ككلامه عن الفرق بين رواية الحديث والشهادة. قال: (قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارق بعض معانيها في غيره؟ فقلت له: هو مخالف للشهادة- كما وصفتُ لك- في بعض أمره، ولو جعله كالشهادة في بعض أمره، دون بعض، كانت الحجة لي فيه بينة -إن شاء الله. قال: وكيف ذلك وسبيل الشهادات سبيل واحدة؟ قال: فقلت: أتعني في بعض أمرها، دون بعض،