تنبيه: وهنا نقطة مهمة في بيان ذكر الحجاوي رحمه الله القول بالحرمة، وتدليس البعض في ذلك؛
فإن الحجاويَّ رحمه الله صرح بالحرمة كذلك في كتاب الحج من الإقناع، حينما نقل حكاية ابن تيمية رحمه الله الاتفاقَ.
وبعض من ينقل كلامَ الرحيباني في المطالب في شرح الغاية، يقتص النص ولا يكمله، والله المستعان.
قال رحمه الله: «(وكذا) يحرم (طواف بها)، أي: القبور، (خلافا له)، لصاحب «الإقناع» (هنا)».
ثم وقف عند كلمة (هنا)، ولم يكمل
وتمام العبارة:
«(هنا) حيث صرح بالكراهة، وفي موضع آخر صرح بالحرمة».
فقد ذكر أن الحجاوي رحمه الله صرح بالكراهة في هذا الموضع من كتاب الجنائز، وصرح بالحرمة في موضع آخر في كتاب الحج؛ حيث نقل حكاية ابن تيمية رحمه الله الاتفاقَ على الحرمة.
وليس نقل الحجاوي لكلام ابن تيمية خروجًا من التبعة، بل إقرارٌ، والله المستعان.
وهنا نقول:
إن الجواب من وجوه:
• الأول: إن حاصل قول الحجاوي رحمه الله بالكراهة أنه من اجتهاده هو، وليس ما قاله مما ذكر في الإنصاف أو تصحيح الفروع أو التنقيح، ثم هو لم يذكر الخلاف مع عدم المصحح، وذلك وفق ما ذكره من طريقته في مقدمته: «على قول واحد وهو ما رجحه أهل الترجيح منهم العلامة القاضي علاء الدين في كتبه الإنصاف وتصحيح الفروع والتنقيح، وربما ذكرت بعض الخلاف لقوته، وربما عزوت حكمًا إلى قائله خروجًا من تبعته، وربما أطلقت الخلاف لعدم مصحح».
ومَن له دراية بالمذهب وليس ادعاءً يعلم أنه كم دخل في كتبِ المتأخرين من تصرف، وهذا التصرف قديم، فقد حكى عنه ابن القيم رحمه الله (ت ٧٥١) في كتابه الطرق الحكمية (٢/ ٦٠٨، ٦٠٩): «وإنَّما المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثمَّ يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين النَّاس بجاه الأئمة، ويفتى ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نصَّ على خلافه».
وقد جمعت خلافاتِ الإقناعِ مع المنتهى من الغاية، وزدتُ عليها، وقابلتها بنصوصِ إمامِ المذهبِ وقدماءِ الحنابلةِ، فوقع لي جملةٌ من الاختلافات، والله المستعان.
• الثاني: انعقد الإجماعُ قبل تخريج الحجاوي رحمه الله، وقد سبق أن ذكرنا حكاية النووي وابن تيمية والعز ابن جماعة وابن حجر المكي رحم الله الجميع، بالإضافة إلى أن كل مَن نقل حكاية ابن تيمية من الحنابلة لم يتعقبه.
• الثالث: أن التخريج بالكراهة على مذهب أحمد غير متحقق؛ إذ الطواف عبادة مقصودة يتقرب بها، وكذلك خصوصية الطواف بالبيت المعظم، كما هو مبثوث في كتب الحنابلة وغيرهم.
والتخريج كذلك متجه بالحرمة بأن الطواف صلاة في الأحكام إلا فيما خصه الدليل متجه جدا عند الحنابلة، وقد صرَّح بعضُهم بذلك، منهم الحجاوي في الإقناع؛ إذ نقله عن القاضي وغيره مقرًّا له.
فكما أن الصلاة يتوجه فيها إلى الموضع المخصوص بالاستقبال وهو الكعبة، فكذلك الطواف؛ فلا يطاف إلا بالموضع المخصوص، وهو الكعبة.
وكذا السجود لله عند الكعبة خاص؛ إذ هي القبلة، كما أن سجود الملائكة لآدم إنما كان سجودا لله، وآدم عليه السلام كان قبلةً لسجودهم، كما أشار إلى ذلك غير واحد من الحنابلة وغيرهم، وكذا الطواف هو عبادة لله عند موضع مخصوص، فيحرم فعله بغير هذا الموضع.
بالإضافة إلى قاعدة سد الذرائع على التفصيل المذكور في كتب المالكية والحنابلة خصوصا حول هذه المسألة؛ قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (٢٣/ ٢١٤): «وهذا أصل لأحمد وغيره، في أن ما كان من باب سد الذريعة، إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه».
هذا وقد انتهى بحول الله تعالى وقته المقصود، مع الاختصار في بعض المباحث، وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصا صوابا، وألا يجعل لأحد فيه شيئا.
وأرحب جدا وأسعد بمن يسدد وينصح وينتقد على رسوم العلماء وطريقتهم، وأسأل الله تعالى لي ولإخواني جميعا الهدايةَ والتوفيقَ والرشادَ.
والله المستعان وحده، وهو الهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.