العمل، فوقع في أخطاء قاتلة أتلفت عمله بالكلّية، وأساء إلى هذا الكتاب من حيث أراد أن يحسن إليه، فأخرج طبعة سقيمة فاقدة لأبسط قواعد التحقيق العلميّ الرّصين: لغة، وضبطا، وقراءة، ومعرفة بالمخطوط، ثم جهلا بموضوع الكتاب أوقعه في مزالق خطيرة.
ومما يؤسف عليه في هذه الأزمنة أن يمتهن علم تحقيق النصوص فيما رسه كلّ من هبّ ودبّ، مع أنه اليوم يدرّس في أرقى الجامعات، وتمنح فيه الشّهادات العليا، فصارت آلات الطباعة تدور لتخرج تراثا مشوّها بحروف جميلة وألوان جذّابة وتجليد فاخر، من غير عناية بالمحتوى.
ولست هنا بحال أسعى فيه لتذنيب من تصدّى لهذا العمل ونشره، فالبلية عامة، والخطب خطير، وذلك أنّ تراث الأمة من أعظم جوانب إحياء مجدها خطرا وأبقاها على الأيام أثرا، فهو وجدانها وتجربتها عبر التاريخ، لا سيّما في هذه الأعصر التي تحتاج فيها الأمة إلى تثبيت هويتها الحضارية العربية الإسلامية، لا نطلاق أبنائها نحو استعادة أمجادهم وتطهير أوطانهم من دنس الغزو الفكريّ الذي تعمل جهات العولمة الخبيثة على طمس معالمه وفرض المثل والأخلاقيات الغربيّة الغريبة عليه؛ بغية قطع الاتصال بهذا العمق الحضاريّ العظيم، وإفراغ عقول شبابه من كلّ ما يعتزّون به ويفاخرون، تمهيدا للهيمنة عليهم وإخضاعهم لأصول حضارة لا ينتمون إليها، فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين.
إنّ العناية بالتراث وتحقيقه وتجليته يتطلب توفّر علماء من ذوي الباع الرّحب في علوم شتى، فضلا عن عمق وتخصّص في الموضوع الذي يتناولون تحقيقه. ونحن نعلم أنّ الأمة قد أنجبت في حال نهضتها في المئة الماضية محققّين أجلاء، عمل كلّ في حقل اختصاصه، فنشرت النصوص المتقنة في البلاد المصرية والشامية والعراقية والمغربية، برز فيها الجهد المستند إلى العلم والبصيرة، وقد تلقّاها الباحثون بالنقد المنصف والتعقيب بما قد تسرّب إلى أعمالهم من هنات أو أخطاء طباعيّة، فيتقبّلونه بخلق العلماء، وينوّهون بمن استدرك عليهم ودلّهم على بعض هفواتهم.