والكافر لا يرى ذلك إلا بعد هلاكه، فما أعجب تعبير القرآن في هذا! إذ يقول الله تبارك وتعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر:٢٣،٢٤]، فحسرة الكافر وندمه إنما هو لكونه لم يقدم لحياته، ويقصد الحياة الآخرة، ولكنه لم يصفها بـ (الآخرة)؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته، إذ أدرك الآن عياناً أن ما سبق من حياته الدنيا ليس بحياة، فندم على تفريطه في حياته الحقيقية: الآخرة، ونتيجة الأمر أنه ما حيي إلا من حيي في الآخرة وللآخرة. وأما الدنيا فهي -بالنظر إلى هذا المعنى- ليست بحياة؛ إلا مجازاً.
فإذن لا طول للحياة الدنيا ولا بقاء لها مكاناً وزماناً، بل هي مجرد خدعة للإنسان إن لم يستثمرها للحياة الحقيقية: الآخرة، إنها -لو تدبرت- عمر في أيام .. فلا طول، وإنما الطول مفهوم يدل على الحصر؛ إذ ما سمي طولاً إلا لقابليته للعد والقياس، وكل معدود محدود. ومن هنا وصف الله الجنة بالعرض دون الطول، وذلك بعدما قرر عز وجل طبيعة الحياة الدنيا، فقال على سبيل الجزم والتحذير: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ