فتعوي ريح الفناء بالوديان والقيعان، لتكنس كل أثر للحياة، وكأن الأشجار المتحطمة الأغصان، ما أورقت قط ولا أزهرت، وكأن الأطيار الراحلة في الأفق البعيد ما عششت هاهنا ولا غردت! {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}!
تبصرة:
ولنا في هذا المثال الرباني الحق عبرتان كلتاهما ترجع إلى حقيقة كونية عظمى، الأولى: تتعلق بمفهوم المكان، أي طبيعة بناء الكون، والثانية: تتعلق بمفهوم الزمان؛ أي طبيعة حركة العمر.
فأما الحقيقة الأولى: أي مفهوم المكان؛ فهو راجع إلى أن هذا البناء الكوني الممتد ما بين السماء والأرض؛ ليست له طبيعة خالدة؛ لأن تكوينه الابتدائي كان كذلك؛ أي أنه بني على هذا الوزان، وهو أن يحيا إلى حين، لا إلى الأبد، فكل المكان من حيث هو مكان قائم على مبدأ الفناء، فحركة أجرامه ومدارات فضاءاته، كلها سائرة إلى نهايتها، ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي (الحياة الدنيا)، فهي حياة، نعم، لكنها إلى حين، إنها (دنيا): أي قريبة الأجل، لا خالدة، ولا حتى ممتدة امتداداً طوليّاً حقيقيّاً، بالنسبة إلى امتداد (الحياة الأخرى).