(فلا تأخذ ودائع ذات ريش ... فمالك أيها الإنسان بضنه)
وله أشعار كثيرة في مثل هذا المنزع.
وأخبرني أبو الفضل البغدادي: سمعنا في شعره: لما مرض أبو العلاء مرضه الذي مات فيه، وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وكان قد بلغ ستا وثمانين سنة، ودخل عليه الطبيب ورأى ما به من الضعف، فلما خرج قال لأهله: لو أكل اللحم لرجعت إليه قوته وتماسكت، وإلا فهو هالك، فسهلوا عليه ذلك فأخبر بما ذكر الطبيب وقيل له: ما عليك في أكل اللحم حتى تتراجع قوتك ثم تستمر بعد ذلك على مذهبك، ؛ فأنزل ذلك منزلة أكل الميتة عند الضرورة، فأجاب إلى ذلك، ثم سمع صوت دجاجة تستغيث، فقال: وما لها؟ ! قالوا نريد ذبحها، ويصنع لك منها طعام. فقال: ناولوني إياها، فأخذها ولمسها، فوجدها ترعد، وقلبها يخفق. فقال: إن لم تبق نفسي في جسمي إلا بهلاك هذه النفس، فلا أبقاها الله! خلوا عنها.
وهكذا رأيناك قد أنكرت علينا قولنا: إن ذا النون الأخميمي الزاهد من الباطنية وقلت: الباطنية لفظة تقع على الزنادقة و"ذو النون" رجل فاضل، وهذه اللفظة لا تقع على الزنادقة فقط، كما قلت، بل هي في الحقيقة لفظة يصح أن يسمى بها كل من خالف الظاهرية. إلا أن هذه اللفظة جعلت لقبا للقرامطة والإسماعيلية وغلبت عليهم. وهم قوم يظهرون محبة علي - رضي الله عنه - والتشيع له ويزعمون علم الباطن وأسرار القرآن والشريعة، ويقسمون الأشياء إلى ناطق وصامت، والأدوار: دور ستر ودور كشف، ولهم مذاهب سخيفة. ولأبي بكر الباقلاني كتاب في الرد عليهم.
وقد نزه الله - تعالى - ذا النون عن أن يكون منهم؛ فإن كفر هذه الفرقة لا يخفي على من له أدنى بصر. وإنما أراد بقولنا المذكور أنه كان ممن يقولون بالباطن مع قوله بالظاهر، وكانت له مشاركة في العلوم القديمة مع خيره وفضله. والصوفية كلها تقول بالباطن، إلا أن منهم من كان يفرط في ذلك إفراطا يخرجه إلى الكفر، نعوذ بالله من الخذلان.