ورأيناك - وفقنا الله وإياك - قد عارضتنا في أشياء من العلوم النظرية: مثل مخالفتك لنا في الدهر والزمان، وإثبات إرادة الإنسان، وقولنا إن النفس جوهر باق لا يهلك بهلاك الأجسام ونحو هذا مما يمتد فيه باع الكلام؛ كأنك نقمت علينا أن لم نقتصر في هذه الأمور النظرية على مذهب الأشعرية، ولو شئت لأجبناك عنها كما فعلنا بالأمور الأدبية فاستدللنا ببعض على بعض.
واعلم بأن اتباع الناس على آرائهم ليس بواجب ولا فرض، ولا سيما بمن ينزه نفسه عن أن يكون من أهل التقليد الذين ينادون من مكان بعيد. وليس إمساكنا عن القول في هذه الأشياء والخوض جهلا منا بأغراضها ومعانيها، ولكنها أمور نكتفي بالإشارة والتلويح عن الإبانة والتصريح، فنحن نطويها على غرها، مخافة أن تدنسنا بعرها، وليس يخفي التعسف والإنصاف، ولا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكاف.
وكذلك رأيناك قد عبتنا بذكرنا في هذا الشرح بعض الفلاسفة المتقدمين من الطبيعين والإلهيين، وذلك أمر قد اضطررنا إليه؛ إذ كان شعر هذا الرجل يبعث عليه، لأنه سلك بشعره غير مسلك الشعراء، وضمنه نكتا من المذاهب والآراء، وأراد أن يرى الناس معرفته بالأخبار والأنساب، وتصرفه في جميع الآداب. ولم يقتصر على ذكر مذهب المتشرعين حتى خلطها بمذاهب المتفلسفين؛ فتارة يخرج ذلك مخرج من يرد عليهم، وتارة يخرجه مخرج من يميل إليهم، وربما صرح بالشيء تصريحا، وربما لوح به تلويحا. فمن تعاطى تفسير كلامه وشعره، وجهل هذا من أمره، بعد عن معرفة ما يومئ إليه، إن ظن أنه عير عليه؛ ولهذا لا يفسر شعره حق تفسيره إلا من تصرف في أنواع العلوم، ومشاركة في الحديث منها والقديم، فلم يكن بد من ذكر المعاني التي أوما إليها، وحام فكره عليها، كمثل ما أنشدناه من قوله: