(٢) قال القاسمي رحمه الله: (أي: الأرجح عنده، فيسأله ويأخذ بقوله، قال العلامة الفناري في فصول البدائع: ولا يستدل بأن تكليف العامي بالترجيح تكليف المحال لقصوره عن معرفة المراتب؛ لأن الترجيح ربما يظهر للعامي بالتسامع، وبرجوع العلماء إليه، وكثرة المستفتين، واعتراف العلماء بفضله، قال الغزالي: كما يعرف أطباء البلد بالتسامع والقرائن وإن كان لا يحسن الطب، وبعد ظفره بالأوثق واستجابته فله زيادة العلم بالبحث عن المأخذ، قال السبكي في جمع الجوامع: (وللعامي سؤاله) أي: العالم (عن مأخذه استرشادًا، ثم عليه) أي: العالم (بيانه) أي: المأخذ (إن لم يكن خفيًّا) عليه بحيث يتقاصر فهمه عنه، وإلا فيعتذر له بخفاء المدرك عليه؛ لأنه يجب في العامة أن يقتصر بهم على قدر أفهامهم، كما بينه الراغب الأصفهاني رحمه الله في الباب (٢٦) من كتاب الذريعة. وذكر رحمه الله في الباب (٢٠): أن حق الإنسان ألا يترك شيئًا من العلوم أمكنه النظر فيه واتسع له العمر إلا ويخبر بشمه عَرْفه، وبذوقه طيبه، ثم إن ساعده القدر على التغذي به والتزود منه فبها ونعمت، وإلا لم يبصر لجهله بمحله ولغباوته عن منفعته إلا معاديًا له بطبعه. فمن يك ذا فم مر مريض يجد مرًّا به الماء الزلالا فمن جهل شيئًا عاده، والناس أعداء ما جهلوا، بل قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، وحكي عن بعض الفضلاء: أنه رؤي بعد ما طعن في السن وهو يتعلم في أشكال الهندسة، فقيل له في ذلك، فقال: وجدته علمًا نافعًا، فكرهت أن أكون لجهلي به معاديًا له. وقال منصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بنا طلب العلم والأدب؟ قال: والله لأن أموت طالبًا للأدب خير لي من أن أعيش قانعًا بالجهل، قال: فإلى متى يحسن بي ذلك؟ قال: ما حسنت الحياة بك. ولا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلم، بل يجعل لكلٍّ حظه الذي يستحقه، ومنزله الذي يستوجبه، ويشكر من هداه لفهمه وصار سببًا لعلمه، ويجب أن يقدم الأهم فالأهم، وكثير من الناس ثكلوا الوصول بتركهم الأصول، كمن قال: لقد أصبحتُ في ندم وهمٍّ وما يغني التندم يا خليلي مُنعت من الوصول إلى مرامي بما ضيعت من حفظ الأصول وحقه أن يكون قصده من كل علم يتحراه التبليغ به إلى ما فوقه، ويجب ألا يتعرى علمه عن مراعاة العمل، فبه يتبلغ، ألا ترى أنه ما خلا ذكر الإيمان في عامة القرآن من ذكر العمل الصالح كقوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ا. هـ كلام الراغب في كتاب الذريعة، وقد حكى في كشف الظنون أن الإمام الغزالي كان يستصحبه دائمًا ويستحسنه؛ لنفاسته. وفي ختم المصنف صفي الدين كتابه هذا بقوله: (الأوثق بنفسه) براعة مقطع، وحسن اختتام من طرف خفي لا يخفى على الذكي، وذلك من المحسنات البديعية. وقد كان الفراغ من هذه التعليقات في ذي القعدة عام (١٣٢٤ هـ) بقلم الفقير محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح القاسمي الدمشقي غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين ومنَّ عليه وعليهم برحمته إنه أرحم الراحمين. [ولا أرى بُدًّا من ختم الكلام بهذه الوصية، وهي العناية بجياد الكتب، وبدائع الأسفار، فإن بها تبعد من مناول الجهل، وتأنف من الشغل بسخف المنى واعتبار الراحة والهزل، قال الجاحظ: «إن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد تجربة وعقل ومروءة، وصون عرض، وإصلاح دين، وتثمير مال، ورب صنيعة وابتداء إنعام، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسته صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرديئة، وجهالتهم المذمومة؛ لكان في ذلك السلامة والغنيمة، وإحراز الأصل مع استفادة الفرع. ثم على الطلبة أن يرجعوا من جياد متون هذه الكتب إلى أبلغها أسلوبًا، وأفصحها تركيبًا، وأكمها قواعد، وأغزرها فوائد، فإن بمثلها تتحرك الهمم لطلب العلم، وتنازع إلى حب الفهم، ولا تؤثر عليه عوضًا، ولا تبغي به بدلًا، إلا أن مثل هذه المتون لم يزل كالجوهر المكنون، والسر المصون، منه ما نسجت عليه عناكب النسيان، ومنه ما أخنت عليه يد الحدثان، بيد أن من جد وجد، ومن لج ولج، وقد كان للمحققين عناية كبرى بها حفظًا ومطالعة وقراءة وإقراء وشرحًا واصطحابًا، حكى صاحب الشقائق النعمانية في ترجمة العلامة علاء الدين القوشجي رحمه الله: أنه كان جمع عشرين متنًا في مجلدة واحدة، كل متن من علم، وسماه: محبوب الحمائل، وكان بعض غلمانه يحمله ولا يفارقه أبدًا، وكان ينظر فيه كل وقت حتى حفظ -فيما يقال- كل ما فيه من العلوم) ا. هـ. فهذا عمل القوشجي لنفسه، وهذا اشتغاله على المدى، وهذه عنايته بالمتون وهو ما هو، -راجع ترجمته في الشقائق وانظر منه بحرًا خضمًا-، فأنى بمن لم يلحق شأوه، ولم يخط خطوه، ولا جرم أنه في أشد الحاجة منها إلى ما ذخر السلف الصالح، وخلده الأئمة المتقدمون رضوان الله عليهم، أولئك الذين علموا أن ليس للمرء في ثرائه وجميل روائه ما يصلح سرًّا لامتيازه واعتلائه، بل إنما خلق الإنسان ليعلم ويعمل، ويستخلف أثرًا يؤثر عليه، وينظر إليه منه، وأنه لا حياة مع الجهل، ولا موت مع العلم. ونحن لا نحصي ثناءً على الله تعالى فيما هدى ووفق للعثور على هذه المتون الجليلة، ونظمها في هذه السلسلة الجميلة، لا سيما المتن الأخير، فإنا لم نعثر منه إلا على نسخة مخطوطة في المكتبة العمومية بدمشق الشام ليس لها ثانية، وما وقفنا عليه حتى رأيناه من أنفس الآثار الأصولية، وأعجبها سبكًا، وألطفها جمعًا للأقوال، وإيجازًا في المقال، ولما تحققنا ما له من الشأن الخطير أسرعنا إلى نقله ثم مقابلته، ولم يكن ذلك دون شديد العناء؛ لأن النسخة المذكورة أكثرها غفل لا نقط على أحرفه ومستعجمة برداءة الخط، وكثرة التصحيف، وتغيير الأرقام عن الجودة، فيقاسي القارئ من تحقيق الكلمة وإدراك المعنى صعوبة زائدة، لكن كل عناء في هذا السبيل عددناه راحة، واستحلينا له الصبر الجميل؛ لرغبتنا في تعريف هذه الدرة وإهدائها لأكفائها البررة. ومما كان له عندنا اليد الطولى في العون على تصحيحه وتنقيحه من الأمهات الأصولية كتابا: (مختصر الروضة) القدامية للطوفي، و (نزهة الخاطر) لتوافق الكل في معظم المباحث وترتيب جل المسائل، فصححنا منهما كثيرًا مما غمض من ألفاظه، وأشفعناه بما علقنا منهما ما يوضح جملًا من دقائقه، سوى ما راجعناه لأجله من الكتب الشهيرة كما تراه في العزو في أطراف التعليقات، وقد قالوا: «من بركة العلم عزوه لأهله». اللهم حبب إلينا التثبت، وزين في عيننا الإنصاف، وأذقنا حلاوة التقوى، وأودع صدرنا البر واليقين، وألحقنا بالصالحين، وصل وسلم على خاتم النبيين، وآله الطاهرين، والحمد لله رب العالمين]. تنبيه: ما بين المعقوفتين زيادة من طبعة ابن تيمية.