للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وزيادة ثبوت أسبابها ونفي معارضتها وما أشبه ذلك، وتظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي، فنظر القاضي أوسع من نظر المفتي ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه، وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعًا) (١).

ومن الطرائف التي تُلمح إلى أثر الاشتغال بالفتيا أو بالقضاء في طبيعة وسجية من تولى شيئًا من ذلك ما يحكى عن قاضي القيروان محمد بن أبي يحيى الفاسي (ت ٧٧٧ هـ) أنه دخل عليه البرزلي (ت ٨٤١ هـ) والزعبي (ت ٨٣٣ هـ) للسلام عليه، فلما خرجا قال لمن حضره: الأول مفتي بلده والثاني قاضيها. وقد كانا كالذي قال (٢).

وهذا القدر الزائد من العلم بالجزئيات عند القاضي لا يستوجب اشتراط الكمالات العلمية فيه من حيث فقيه، بل ربما أمكنه التسلط بعقله وفراسته على ما لا يتوصل إليه من هو أفقه منه (٣)، ومن هذا الباب قول أبي العيناء (ت ٢٨٣ هـ) في قاضي البصرة عبد الله بن سوار (ت ٢٢٨ هـ): ليس أحد ولي القضاء قليل الفقه، قد تمَّ القضاء بعقله إلا عبد الله بن سوار (٤). وقال الدباغ (ت ٦٩٦ هـ) في وصف القاضيين أسد بن الفرات (ت ٢١٣ هـ) وأبي محرز الكناني (ت ٢١٤ هـ): (وكان أسد أوسع من أبي محرز علمًا وأغزر فقهًا، وكان أبو محرز أقل فقهًا وأكثر صوابًا في كثير من الأوقات (٥). وقال ابن أبي الوفاء (ت ٧٧٥ هـ) في قاضي القضاة أبي الحسن إسماعيل بن صاعد (ت ٤٤٣ هـ): (وكان رجلًا من الرجال الدهاة، ولم يشتهر بشيء من العلوم، إلا أنه كان دقيق النظر عارفًا برسوم القضاء، مزاحمًا للصدور؛ بما له من تقدم حشمة أبيه وبما فيه من الرجولية، ومع ذلك كان قصير اليد عن الأموال) (٦).


(١) فتاوى السبكي (٢/ ١٢٣).
(٢) تاريخ قضاة القيروان، الجودي (١٢٧).
(٣) انظر: التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، خليل بن إسحاق (٧/ ٣٨٥).
(٤) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ١٥٥). ومن هذا المعنى ما جاء من وصف بعض القضاة بحسن العلم بـ (صناعة القضاء)، انظر مثلًا: ترتيب المدارك، القاضي عياض (٢/ ٢٩٤) وفي (٣/ ٢٣٠).
(٥) معالم الإيمان (٢/ ٣٣).
(٦) الجواهر المضية (١/ ٤١١).

<<  <   >  >>