للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ليكون الفقيه به متعبدًا محفوظه ودارسًا ما يعلمه) (١).

٨ - التعليم بالمناظرة وبعث الهمة على التعلم:

قال الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ): (إنما يناظر العالم ليتعلم الناس فيما بينهم، أو عالم يتعلم الناس منه) (٢). وذلك أن المناظرة فيها شرح للخلاف على صورة المحاورة بين المختلفين، فيذكران الأقوال والأدلة ويحتج كل منهما لمذهبه، وهذه الصورة داعية إلى حسن الفهم إن جرت على مقتضى أفهام الحضور، وما يتفق فيها من براعة الاحتجاج والاعتراض والتمكن من قواعد الشرع وفروعه والغوص في معانيه مما يستفز المتعلم إلى الاقتداء بأهل البحث والنظر. قال تاج الدين السبكي (ت ٧٧١ هـ): (ما يقع في المغالطات والمغالبات في مجالس النظر يحصل به من تعليم إقامة الحجة ونشر العلم وبعث الهمم على طلبه ما يعظم في نظر أهل الحق) (٣). وقال الخليل بن أحمد (ت ١٧٠ هـ): (واجعل مناظرة المتعلم تنبيهًا على ما ليس عندك) (٤).

وكان هذا من سبيل أهل العلم في مناظراتهم، فكما يقصدون بها تحري الصواب والرد على المخالف فيه، فكذلك كان من همتهم فيها تعليم من حضرها وجوه الاحتجاج والاستدلال والرد والاعتراض. ومن ذلك ما روى الحارث بن سريج النقال (ت ٢٣٦ هـ) فقال: دخلت على الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) يومًا وعنده أحد بن حنبل (ت ٢٤١ هـ)، والحسين القلَّاس، وكان الحسين أحد تلاميذ الشافعي المقدَّمين في حفظ الحديث، وعنده جماعة من أهل الحديث، والبيت غاص بالناس، وبين يديه إبراهيم بن إسماعيل بن علية (ت ٢١٨ هـ)، وهو يكلمه في خبر الواحد، فقلت: يا أبا عبد الله، عندك وجوه


(١) الإفصاح (٩/ ٥٢)، ولعلها (متعيِّدًا) بالياء لا الباء كما هي مثبتة، وفي المسودة (٥٤١) نقلًا عن الوزير: (فإنه أوفق ما يحمل الأمر فيه بأن يخرج مخرج الإعادة والتدريس، فيكون الفقيه به معيدًا محفوظه ودارسًا ما يعلمه).
(٢) ترتيب المدارك، القاضي عياض (١/ ٢٢٠).
(٣) طبقات الشافعية الكبرى (٤/ ٦٢).
(٤) البيان والتبيين، الجاحظ (١/ ٢٧٤).

<<  <   >  >>