للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

العلماء يميزون بين المناظرة والمكابرة، وقد قال الملك الناصر صلاح الدين (ت ٥٨٩ هـ) واصفًا بعض مجالس النظر: (كان المجير الفقيه يتكلم مع الجمال الحنفي، فكان الجمال يبقبق، والمجير يحقق) (١). وقال القاضي أبو يوسف (ت ١٨٩ هـ): (إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب) (٢).

وقال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ): (لا يمكن أحدًا من الخلق يكلم أحدًا وإن كان نبيًّا مرسلًا حتى يذهب لسان الآخر، ولكن بحسبك أن يستبين عند ذوي الأقدار أنه قد قام بالحجة) (٣). وقال ابن حزم (ت ٤٥٦ هـ): (واقنع من خصمك بالعجز عن أن ينصر قوله، ولا تطالبه بالإقرار بالغلبة، فليس ذلك من فعال أهل القوة. وهذا باب لا ينتج شيئًا إلا العداوة وأن توصف بلؤم الظفر) (٤).

٧ - رسوخ العلم وبقاؤه وثباته:

فإن المناظرة فيها مزيد بحث ونظر وتدقيق من شأنه أن يثبت العلم ويوثقه، وفائدتها أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيها تكرارًا وزيادة (٥).

والذي ينهض للجدال في مسألة منتصرًا لها وذابًا عن حجتها أثبت فيها ممن قنع من ذلك بالدرس المجرد، وإدمان المناظرة مع الأقران على جهة التعلم أمكن للعلم في قلوب المتناظرين، وكان هذا من دأب الفقهاء في تحصيلهم للفقه ومذاكرتهم له، حتى ذكر عن الإسبيجابي (ت ٥٣٥ هـ) أنه لم يترك وشريكه في المناظرة الجلوس لها كل يوم حتى تمَّ لهما اثنتا عشرة سنة على ذلك (٦).

قال الوزير ابن هبيرة (ت ٥٦٠ هـ): (فأما هذا الجدل الذي يقع بين أهل المذاهب فإنه أرفق ما يحمل الأمر فيه بأن يخرج مخرج الإعادة والدرس؛


(١) الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٤٢٧).
(٢) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي (٨/ ٢٣).
(٣) مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ١٢٨).
(٤) رسائل ابن حزم (٤/ ٣٣٩)، وانظر صور الانقطاع في: الجدل عند الأصوليين، د. مسعود فلوسي (٢٥٦).
(٥) انظر: تعليم المتعلم، الزرنوجي (١٨).
(٦) تعليم المتعلم (٢١).

<<  <   >  >>