للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فسألاه فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه مادحين لعلمه، فبقيت مرتبكًا وبحالهما وحالي معتبرًا، وإني لعلى ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي) (١). فربما عرض للراسخ في العلم من الدهشة والذهول حتى ليظن به الجهل وإنما هو العيُّ والحَصَر الذي يعرض للخطيب المفوَّه والعالم المقدَّم، وقد قال الجاحظ (ت ٢٥٥ هـ) في خطبة كتابه ((البيان والتبيين)): (اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيِّ والحصر. وقديمًا ما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما) (٢). وفي هذا المعنى يقول أبو بكر الرازي (ت ٣١١ هـ): (وربما أشكل على العالم النحرير المسألة التي يجيب عنها أقل تلامذته علمًا وأحلُّهم فهمًا، لا أنه ليس يحفظها أو لم يقرأها ولم يسمعها، لكن لعوز الكمال في الإنسان) (٣).

وفي المناظرة المشهور بين أبي سعيد السيرافي (ت ٣٦٨ هـ) ومتَّى بن يونس (ت ٣٢٨ هـ) التي انعقدت سنة ٣٢٦ هـ في مجلس الوزير ابن الفرات (ت ٣٢٧ هـ) بمشهد جماعة من العلماء، تكلم متَّى بمراده فأحجم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعُدُّكم في العلم بحارًا، وللدين وأهله أنصارًا، وللحق وطلابه منارًا، فما هذا الترامز والتغامز اللذان تَجِلُّون عنهما؟ فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه فقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس، على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة؛ لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مَكسَرة، ويجتلب الحياء والحياء مَغلبَة، وليس البِراز في معركة غاصة كالمِصاع في بقعة خاصة (٤).


(١) أدب الدين والدنيا (١٢٧).
(٢) البيان والتبيين (١/ ٣)، وقد استشهد بخطبته هذه الماوردي بعد ذكر القصة المتقدمة.
(٣) أخلاق الطبيب (٢٢).
(٤) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي (١٠٣).

<<  <   >  >>