للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فكانوا يحتسبون ذلك دينًا عند الله تعالى، ولا يألون نفع الناس ما استطاعوا، وينتصبون لتعليم الناس في كل وقت، ويكون ذلك همهم الدائم وشغلهم الشاغل، ويتألفون الطلبة للعلم وربما أنفقوا عليهم من أموالهم، وأخذوهم بالرحمة والشفقة والتعاهد لهم ولأهليهم، وشأنهم في ذلك أكبر من أن ينبَّه على مثله أو تذكر شواهد له، وكتب التراجم والسير حافلة من ذلك بما لا يمكن أن يخفى على أحد.

ثم إذا علم ذلك فإن مجلس المعلِّم مجلسُ الشارح للعلم بحيث تتضح مسائله للمتعلم فلا يصعب عليه شيء منها، ويترقى به في مراتب العلم من مقدِّماته وواضحاته إلى دقائقه وغوامضه، ومن صغاره إلى كباره، وقد قال الله جل جلاله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: ٧٩]، قال الإمام البخاري (ت ٢٥٦ هـ): (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) (١)، قال الشُرَّاح: أي: الذي يربي الناس بجزئيات العلم قبل كلياته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بمقدماته قبل مقاصده، أو ما وضح من مسائله قبل ما دق منها (٢). فالمعلم في مجلسه يترقى بطلبته من المقدمات إلى الغايات، آخذًا بهم من العلم إلى العمل والتزكية وحسن التخلق بالعلم مع الله تعالى ومع الناس، وقد كانت العرب تقول للعالم العامل المعلِّم: الشارع الرباني (٣).

وهو في مجلسه هذا ليس بالقاضي الذي يحكم بين الناس، وقد روي أنه لما وجَّه عمر رضي الله عنه ابن مسعود رضي الله عنه إلى الكوفة قال له: (إني وجَّهتك معلِّمًا ليس لك سوط ولا عصا) (٤). وليس مقامه مقام المفتي الذي يفتي في الواقعات؛ فإن نظر هذين متوجِّه إلى الجزئيات وفيه ملاحظة لأحوال الخصوم


(١) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(٢) انظر: عمدة القاري، العيني (٢/ ٤٣)، إرشاد الساري، القسطلاني (١/ ١٦٨).
(٣) ربيع الأبرار، الزمخشري (٣/ ٢٠٨).
(٤) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ١٨٨). وانظر حكاية الشافعي مع أبي ثور لما قال له: (نحن حكام أو معلمون؟) في: مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ٢٢٢).

<<  <   >  >>