للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكذلك أهل العلم والفقه في كل عصر ومصر، بهم يقيم الله جل جلاله دينه ويحفظ شريعته، فيعلِّمون الناس كيف يتعبدون الله تعالى في شأنهم كله، ويبصِّرونهم في إصلاح عامة شؤونهم في الدين والدنيا على ما يحبه الله ويرضاه. ويتحملون في ذات الله ما ينالهم في سبيل ذلك من التعب والنصب، ويحتسبون الأجر والثواب عنده يوم يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.

ويتصدَّون لتعليم العامة والخاصة، فأما العامة فيعلمونهم العلم ليعبدوا الله على بصيرة، ويعلم كل إنسان ما له وما عليه من الأحكام والحقوق والآداب والمكارم، وأما الخاصة فعليهم من ذلك ما على غيرهم، ثم إنهم حملة للعلم لسواهم ولمن جاء بعدهم.

وبهذه المجالس التي هي في الأرض كالضياء يتخرج المفتي والقاضي والواعظ والمحتسب والمرابط في الثغور، ولولا مجالس العلماء ما عرف المفتي كيف يفتي، ولا القاضي كيف يقضي، ولا المصلح كيف يصلح، ولا الواعظ بم يعظ، ولا الآمر بم يأمر، ولا الناهي عمَّ ينهي، ولا المرابط علام يرابط، ولاختلَّت أمور الناس ودهمهم في الدين اختلاف كبير. ولذا كان تعليم العلم خير أعمال الناس وأسدَّها وأرشدها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ): (أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفي على أحد ممن نشأ بديار الإسلام) (١). ومن أجل ذلك صبر علماء المسلمين على تعلم العلم وتعليمه ذلك الصبر الذي راح مضرب المثل، ونظموا شرق البلاد بغربها في رواية حديث أو سماع مسألة أو تحصيل حكمة أو تبليغ شيء من ذلك، ولسان الواحد منهم ينطق بنحو قول أبي حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ): (ما كنت أُجوِّز في ديني أن أقف عن الدعوة، ومنفعة الطالبين بالإفادة) (٢).


(١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (٣٠/ ٢٠٤).
(٢) طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٦/ ٢١٠). ولك أن تطالع لمعرفة طرف مما لاقاه علماء الإسلام من الشدة في تحصيل العلم: الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لعبد الفتاح أبو غدة.

<<  <   >  >>