الزغداني رحمه الله، الذي أجده أحيانا قد سبقني اليها، معتمدا على نفس حيلتي، فأنبطح - واياه - على أرضية السدة متجهين لمصدر الصوت حتى لا نرى، فنتلقى الدرس ونكتبه حتى أتينا على آخر الكتاب، ولم يفتني لحسن حظي - منه درس من الدروس.
وأما الكتاب الثالث فهو التربية بالقرآن والسنة، وهذا الكتاب لا يختلف مسلكه عن مسلكه كتابي (أصول الفقه) و (العقائد) ويشتمل على نحو ٧٨ عنوانا في مختلف المقاصد، واصلاح العقائد، وتربية النفس، وتهذيب المجتمع، وتطهيره من الخرافات والأوهام، فهو كتاب جامع نافع، يزخر بالمعرفة، لا يستغنى عنه شبابنا اليوم وشباب فجر الأيام المقبلة.
ان عبد الحميد بن باديس كان يربي أبناءه وطلبته على القرآن والسنة، ويربط اهتماماتهم بهما، ويغذيهم بأمثلة من واقع الحياة وصورها؛ ويعلمهم كيف يضعون أصابعهم على الداء والدواء بما يستمده لهم من أسرارهما، ويدربهم على المقارنة والاستدلال؛ ويدخل بهم في متاهات كتب الفروع، وخرج بهم وقد شدها شدا وثيقا بالأصول.
كان يدرس في الفقه مختصر الشيخ خليل، وأقرب المسالك، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني وغيرها من كتب الفروع حقا، ولكنه لا يكتفى بظاهرها، وتوضيح مسالكها، وتقرير أحكامها فحسب، بل يعود بها الى الأصل ليربطها به، حتى يحرر طلبته من ربقة التقليد الأعمى، فتتحرر نفوسم، وتستمد الأحكام من الأصل الذي لا شائبة فيه.
واذكر انه كان يثني على الشيخ خليل، ويعده من كبار المصلحين والأصوليين، الا انه أحيانا ينحى باللائمة على شراحه - وما أكثرهم - الذين زادوا للمسائل تعقيدا بمطولاتهم وحواشيهم، التي كثيرا ما تتسبب في غياب الحقيقة من حيث كان قصدهم تبيانها.