للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوجه الثالث: أن عمر كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال.

فقيل: شفقته على رسول الله مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: (إن رسول الله قد غلبه الوجع) فكره أن يتكلف رسول الله ما يشق ويثقل عليه (١) مع استحضاره قوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ (٢)، ﴿تبياناً لكل شيء﴾. (٣)

وقيل: إنه خشى تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل نص على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم. (٤)

وقيل: إنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها فاستحقوا

العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة. (٥)

قلت: ولا يبعد أن يكون عمر لاحظ هذه الأمور كلها، أوكان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.

قال النووي: «وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره». (٦)


(١) انظر: الشفا للقاضي عياض ٢/ ٨٨٨، وشرح صحيح مسلم للنووي ١١/ ٩٠، وفتح الباري لابن حجر ١/ ٢٠٩.
(٢) سورة الأنعام آية ٣٨.
(٣) سورة النحل آية ٨٩.
(٤) انظر: الشفا ٢/ ٨٨٩، وشرح صحيح مسلم للنووي ٢/ ٩٢.
(٥) انظر: الشفا ٢/ ٨٨٩، وفتح الباري ٨/ ١٣٤.
(٦) شرح صحيح مسلم ١١/ ٩٠.

<<  <   >  >>