للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْتُ: وَهَذَا الْكَلامُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَثْبُتْ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهَا: إِنَّمَا أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ لا يُؤَاخِذُكُمْ بِذُنُوبِ غَيْرِكُمْ. قَالَ: وَهَذِهِ الآيَةُ لا تُوجِبُ تَرْكَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَرَكَهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لَهُ، فَهُوَ ضَالٌّ وَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ١.

قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَيَدُلُّ على إحكامها أربعة أشياء:

أحدها: أن قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يَقْتَضِي (إِغْرَاءَ) ٢ الْإِنْسَانِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ الإِخْبَارَ بِأَنَّهُ لا يُعَاقَبُ بِضَلالِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لا يُنْكِرَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. لِأَنَّ قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَمْرٌ بِإِصْلاحِهَا وَأَدَاءِ مَا عَلَيْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُهْتَدِيًا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّرْعِ، وَمِمَّا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ: قُولُوا مَا قُبِلَ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أنفسكم٣.


١ ذكر هذا القول المؤلف في زاد المسير٢/ ١٠٦ عن الزجاج.
٢ في (م): (اعر)، وهو خطأ إملائي.
٣ أخرج الطبري في جامع البيان٧/ ٦١ بإسناده عن الحسن قال: (إن هذه الآية قرئت على ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: ليس هذا بزماننا قولوا ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم، فعليكم أنفسكم). وقد ذكر مكي بن أبي طالب عن ابن مسعود أنها محكمة. انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص: ٢٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>