فلن نرى عجبا في وجوه إخواننا- الذين فاجأناهم بمثلنا هذا- إذا قلنا لهم إن الولايات المتحدة قد قررت- وليكن لأسباب استراتيجية- بناء مئة نيويورك (تحت الأرض) لتجمع فيها السكان في حال حرب نووية.
فالوطن الذي كانت له الجرأة، منذ أكثر من نصف قرن، ليقدم على إنجاز المشروع الضخم المسمى (مشروع مجرى التينسي)، لقادر اليوم على إنجاز أي مشروع في الحجم الذي قدرناه (بمئة نيويورك) تقديرا يشبه الخيال.
لكنه ليس في تقديرنا أي خيال، وخصوصا حين نلاحظ أن إعادة بناء سائر مدن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك إعادة بناء هيروشيما ونجازاكي في اليابان، قد تم في صميم الواقع في القرن العشرين بعيدا عن الخيال.
هذا بينما لا نتصور أنه كان في استطاعة ألمانيا واليابان (ثراء) مدنهما المحطمة ودفع ثمنها عينا: فمن أين توافر لهاتين الدولتين ذلك كله في وقت كانتا فيه محطمتين وقد فقدتا كل قوة شرائية في السوق العالمية؟.
ليس في هذا كله عجب، بل إننا نستطيع التدليل بدلائل أخرى كظهور الإتحاد السوفيتي من العدم. ولئن دل ذلك على شيء، فعلى أن عقول الناس تميز، تمييزا طبيعيا إلى حد ما، بين (قوة الشراء) و (قوة العمل) في مجتمع ما.
ولهذا التمييز أهمية كبرى بالنسبة للبلدان المتخلفة، لأنه يجعلها تدرك، إن شاءت، الفرق الجوهري بين الإستثمار المالي الكلاسيكي الذي يعتمد منذ الخطوة الأولى على (قوة الشراء)، والإستثمار الإجتماعي الذي يعتمد أساسا على (قوة العمل).
ولاشك، بأن الصعوبات التي لاقتها هذه البلدان أو الفشل الذي منيت به، بعد الحرب العالمية الثانية، قد كان مرجعها إلى خلط وعدم وضوح في الأفكار في هذا الصدد.