البريطاني بترك الميدان للصهيونيين الذين هيأتهم قياداتهم ووحدتهم من أجل القيام بدورهم، بينما القيادات العربية غمرت شعوبها بالخطب الرنانة فتمزقت وحدتها، وبدلا من أن تنصرف إلى خلاص الأمة عمدت كل واحدة منها إلى الاستيلاء على جزء من أجزائها.
والفارق هنا في منتهى الوضوح، لأننا إذا كنا لا نعرف بالضبط ما تريده القيادة العربية ولا ندري إذا كانت هي الأخرى تعرفه، فإننا على العكس من ذلك، نعرف تماما ما كانت تريده القيادة الصهيونية، وهي كانت تعرفه بوضوح أكبر.
وينبغي أن نضيف للتاريخ ولتعميق إدراكنا، أن العرب لم يكونوا يفكرون في استخلاص النتيجة الضرورية من تلك المجابهة المؤلمة مع واقعهم، إذ لو تأملوا لوجدوا واقعهم يطرح القضية بلغة الحضارة.
فلم يكن من محض الصدفة، أن القيادات الصهيونية تقتصد في الكلام وتلتزم الفعالية في العمل، كما كانت أكثر وفاء لالتزاماتها السياسية والعقائدية من القيادة العربية.
ذلك أن التحليل يقودنا إلى القول إن القيادة الصهيونية كانت تتحرك، وتحرك حولها الأشياء والأشخاص طبقا لما تمليه ثقافة حضارة؛ بينما لم تكن القيادة العربية ترى من الأشياء والأشخاص إلا وسائل لإشباع حبها وهواها في السلطة؛ أي إنها كانت تخضع لما تمليه ثقافة (القوة) التي ربما تنعكس حسب الظروف إلى عقدة (ضعف).
واليوم! نرى الجنوب العربي تسوده الفوضى، وتجابه مرة أخرى قيادة عربية بمشكلة حضارة.