للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولعل أحدًا من ولاة خراسان لم يغز ولم يفتح مثلما غزا قتيبة بن مسلم، وفتح. فقد كان في كل عام من أعوام ولايته العشرة يتأهب في الربيع للإغارة على بلاد ما وراء النهر، وكانت الكتائب العسكرية العربية تأتيه من سائر مقاطعات خراسان ومدنها، وتتجمع بمرو الشاهجان، ثم تخرج للغزو تحت إمرته. وكان قائدا شجاعا لبقا بإدارة العمليات العسكرية وتوجيهها، فانتصر لذلك في أكثر المعارك التي خاضها في طخارستان، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، وفرغانة، واستعد في آخر سنة من ولايته للزحف نحو الصين. بل لقد أشرفت أول فرقة سيرها إليها على حدودها، إذ وصلت مدينة كاشغر، فكان الوالي الوحيد الذي مكن للعرب ببلاد ما وراء النهر، فقلده شعراء تميم، وقيس مدحا باقية على الدهر، مجدوا فيها فتوحاته، وخلدوا بها انتصاراته، واعترفوا له بالفضل والمقدرة الجبارة، وعدوه المحامي عن حقيقة العرب، المعلي لشأنهم، المدافع عن الإسلام، والناشر لكلمة الله في أنحاء الأرض القاصية، كما أكره بعض شعراء الأزد وبكر على الإقرار بكفاءته والمشاركة في الثناء على بطولاته.

ففي سنة سبع وثمانين هاجم بيكند، وهي أقرب مدن بخارى إلى نهر جيحون، فاستجاش أهلها الصغد عليه، فكادوا يوقعون به، ولكن جنوده صبروا، وراح هو يستنهض هممهم فقاتلوا قتالا ضاريا، حتى غلبوا أعداءهم، وأدخلوهم في مدينتهم، فوضع الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح، فصالحهم. ثم إنهم نقضوا الصلح، بعد أن ارحل عنهم، وقتلوا عامله عليهم، فعاد إليهم، وقارعهم شهرا حتى ظفر بهم، وفتح مدينتهم عنوة، وقتل كل من لاذ بها في جيشهم، فقال الكميت بن يزيد١:

ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ... وما يخاراء مما أخطأ العدد

وفي سنة تسع وثمانين أغار على بخارى، ففتح راميشن، ورجع إلى مرو الشاهجان. فكتب إليه الحجاج يأمره بالهجوم على بخارى، فارتد إليها، ولم يكد يقطع النهر حتى تكاثف عليه الصغد، وأهل كس ونسف في طريق صحراوي، فناهضوه، فتغلب عليهم، ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلى، فلقيه أهلها بجمع كثير، فجاهدهم.


١ الطبري ٨: ١١٨٩.

<<  <   >  >>