للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وفي مقطوعة ثالثة يشكو ويبكي لغربته وبؤسه، فقد بلغ من العمر عتيا، واصطلحت عليه الأسقام والأدواء، فأصبح يعاني همين: اعتلال صحته، وفناء ثروته، واحتاج وأملق، وأخذ يترقب الموت بين لحظة وأخرى، يقول١:

يا قوم غيرني وأذهب قوتي ... دهر ألح بطارفي وتلادي٢

فكأنما في المال نار باشرت ... حرثا قد آذن أهله بحصاد

كبر ووقع حوادث نزلت بنا ... والفقر بعد كرامة ومهاد٣

تغتال كل مؤجل أيامه ... وتصير بهجة ما ترى لنفاد

فشخصية كعب -كما توضحها أشعاره- شخصية متعصبة للأزد، ولا سبيل إلى التفريق بينه وبين ثابت قطنة، ولا إلى القول بأنه كان أقل منه حقدا، ولا أصفى نفسا. بل لقد كان كعب أشد ميلا للأزد، وأكثر إحساسا بحقيقتهم ومجدهم المخلد، وأحد استشعارا لدورهم الإسلامي المهمل، وأكثر اعتزازا بالسادة فيهم، والقادة منهم، وأبين إبانة عما احتبسوه في ضمائرهم من المطامع السياسية، وأدل دلالة على ما اعتصر نفوسهم من التغيظ والتذمر بوضعهم في الدولة الأموية، حتى إنه كاثر الخلفاء الأمويين، وأهل الأباطح القرشيين بما تكلفه الأزد من الأعباء في سبيل الذود عنهم، وقمع الثائرين بهم، وتنفخ على القبائل العربية في البصرة والكوفة بحماية الأزد لها، ووثوبهم وحدهم لإبعاد خطر الأزارقة عنها.

وكان يمكن أن نذهب إلى أن انحيازه للأزد، واغتراره بهم، ومفاخرته الخلفاء والقبائل العربية كانت جميعا من نزوات الشباب، وأنه أسرف فيها، وهو يصارع الأزارقة مع المهلب في عنفوان صباه لو أنه تخفف من حميته لقومه بخراسان. غير أنه استمر يتحزب لهم، حينا يذم البكريين والعبديين، وحينا ينتقد المهالبة ويدعوهم إلى الاقتصار في الوظائف على الأزد، ويستشيط غضبا لتقلد البكريين بعض المناصب


١ حماسة البحتري ص: ١٥٢.
٢ الطارف: المال المستحدث. والتلاد: المال الموروث.
٣ المهاد: الفراش الوثير الناعم.

<<  <   >  >>