الطرف الثاني: بالغوا في إثبات القدر، وقالوا: إن العبد مجبور، ولا مشئية له ولا إرادة، يتحرك من غير اختيار، وحركته كحركة أوراق الشجر في مهب الريح، الريح تميلها تبعاً لاتجاهها، ووفق الله -جل وعلا- أهل السنة إلى التوسط في هذا الباب كغيره من أبواب الدين، فهم الوسط من بين الفرق، وأثبتوا القدر بمراتبه الأربع، بالعلم والكتابة والمشيئة والإيجاد والتكوين، أثبتوا المشيئة مطلقة لله -جل وعلا-، والإرادة التامة، وأثبتوا للعبد مشيئة وإرادة فلم يقولوا: إنه مجبور، لكنهم مع ذلكم يقرنون مشيئة العبد بمشيئة الله -جل وعلا- {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [(٢٩) سورة التكوير] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [(١٧) سورة الأنفال] {وَمَا رَمَيْتَ} هذا نفي للعمل على سبيل الاستقلال {إِذْ رَمَيْتَ} إثبات للعمل، ولا يستقيم مع النفي إلا أن يحمل على أنه تابع لإرادة الله -جل وعلا-، ولكن الله -جل وعلا- رمى، يعني وما أصبت، نفوا الإصابة، إذ حذفت، يعني رميت، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي أصاب، وهذا ملاحظ، الإنسان بقدرته أن يأخذ الحجر ويرمي الطير، فهذا من فعله، لكن الإصابة بيد الله -جل وعلا-، قد يصيب وقد لا يصيب، وقد يكون من أمهر الناس، ومع ذلكم لا يصيب؛ لأن الله ما أراد له الإصابة، وقل مثل هذا في كل التصرفات، قد يكون الإنسان من أبلغ الناس، ويتكلم في موضوع يتقنه ويحسنه، لكنه إذا لم يرد الله -جل وعلا- إحسانه لا يحسنه، وسائر الأعمال على هذا، العبد له حرية وله اختيار {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [(١٠) سورة البلد] فله حرية واختيار، لكن مع ذلكم هذه الحرية وهذا الاختيار لا يستقل بها العبد، بل هي تابعة لمشيئة الله -جل وعلا-، فالقدرية يقولون: إذا قام العبد مثلاً وذهب إلى المسجد هذا العبد الذي قام على رجليه ومشى الخطوات إلى المسجد كل هذا لا علاقة لله به -جل وعلا-، هذا يخلقه العبد في نفسه، فأثبتوا خالقاً مع الله -جل وعلا-، ولذا سموا مجوس هذه الأمة، وجاء بهم الخبر.