للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال بعض الحكماء: هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقا على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قال الجوهري: يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة، وفاؤها واو كتراث. فالتقاة اسم وضع موضع المصدر. قال الواحدي:

ويجوز أن يجعل «تقاة» هاهنا مثل «دعاة» و «رماة» فيكون حالا مؤكدة، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمنا معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب «من» . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل: ضرب الأمير لمضروبه، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام: كن وسطا وامش جانبا أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله. وللتقية عند العلماء أحكام منها: إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب. ومنها أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما

روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم.

- وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش- فتركه ودعا الآخر وقال:

أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم. فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

ونظير هذه الآية إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة. ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس. ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس

لقوله صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «١» و «من قتل دون ماله فهو شهيد» «٢»

ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على


(١) رواه أحمد في مسنده (١/ ٤٤٦) .
(٢) رواه الترمذي في كتاب الديات باب ٢١. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٩. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>