"قدم وجوباً علوم الدين" علوم الدين هي التي جاءت النصوص بمدحها، ومدح أربابها وحامليها، أما العلوم الأخرى فهي قد تكون مما يعين، قد يكون فيها إعانة على التحصيل من بعض الوجوه، يعني تقرأ في كتب التاريخ؛ لأن فيها متعة وفيها عبرة، فيها عبرة التاريخ كما يقولون: يعيد نفسه، والأسباب التي انعقدت لهلاك الأمم السابقة إذا وجد نظائرها النتائج واحدة، السنن الكونية لا تتغير، ولذا إذا لو قرأ طالب العلم في الجزء السادس من نفح الطيب وطبق على وضعنا الحالي القائم يضع يده على قلبه، يقول: اللهم سلم سلم، التاريخ يعيد نفسه، بنفس الأسلوب الذي نعيشه الآن، وذهب أولئك نهباً للأعداء وفريسة للأعداء، استولي على محارمهم وعلى أملاكهم، وشردوا وقتلوا، والنتائج واحدة، السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل، ونعيش ما يقرب من عيشهم الآن.
قدم وجوباً علوم الدين إن بها ... يبين نهج الهدى من موجب النقمِ
طالب العلم أيضاً قد يحتاج إلى شيء من الاستجمام والراحة والاطلاع على أخبار الأمم الماضية واللاحقة والمعاصرة يحتاج إلى أن يخرج قليلاً من باب الاستجمام، ومن باب توسيع الأفق؛ لأن بعض المسائل تحتاج إلى شيء من السعة، يعني لو ضربت مثال واحد لبان لنا أن أهل العلم لم يهملوا العلوم الأخرى، لكن يجعلونها خادمة لعلوم الدين، لا يجعلونها أصول قائمة برأسها ينبغي أن تخدم، لا، يجعلونها خادمة لعلوم الدين، فالمثال الذي تقدم في ألفاظ الجرح والتعديل قول أبي حاتم الرازي في جبارة بن المغلس بين يدي عدل، الحافظ العراقي يقول: هذا تعديل، يعني أبو حاتم يوثقه، ويقرأها:"بين يديَّ عدلٌ" وهذا توثيق، لكن الحافظ ابن حجر أوجس خيفة من هذه اللفظة؛ لماذا؟ لأنها من بين أقوال أهل العلم التي كلها تنصب في تضعيف هذا الرجل، فكيف يقول أبو حاتم وهو أشدهم:"بين يدي عدل" فصار يبحث، فوجد في أدب الكاتب ما فيه طرف الخيط، وأن شخصاً يقال له: العدل بن جزء بن سعد العشيرة على شرطة تبع، ثم وجد أيضاً في الأغاني ما يدل على ذلك بزيادة، وأن تبع إذا أراد قتل شخص قال: استلمه يا العدل، وهو على شرطته، فيقول الناس:"بين يدي عدل" يعني هلك، خلاص انتهى.