فدلت هذه الآيات على كمال حفظ الله للقرآن لفظا ومعنى بدءا بنزوله إلى أن يأذن الله برفعه إليه سليما من كل تغيير أو تبديل. إذ تكفل بتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم جمعه في صدره وبيانه له وتفسيره في سنته المطهرة، ثم ما هيأ الله له بعد ذلك من عدول الرجال الذين حفظوه في الصدور والسطور، عبر الأجيال والقرون، فبقي سليما منزها من كل باطل، يقرؤه الصغار والكبار، على مختلف الأعصار والأمصار، غضا طريا كما أنزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نبه العلماء في هذا المقام إلى سر لطيف ونكتة بديعة تتعلق بجواز التحريف على التوراة وعدم جوازه على القرآن على ما روى أبو عمرو الداني عن أبي الحسن المنتاب قال:(كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق فقيل له: لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل التوراة {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}[المائدة: ٤٤] (المائدة: ٤٤) فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم. وقال في القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: ٩](الحجر: ٩) فلم يجز التبديل عليهم. قال: فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال: " ما سمعت كلاما أحسن من هذا ".