للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأما قولهم: إنّ الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر - رضي الله عنه -، ولذلك رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدم الجدوى من كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته. فهذا الكلام مع ما فيه من الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والطعن على الصحابة بمجرد التخرص والظنون الكاذبة، فهو دليل على جهل مركب، إذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالتبليغ سواء استجاب الناس أو لم يستجيبوا، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} المائدة٩٢. فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لعدم استجابة أصحابه، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلّغ ما أُمر به، وما أثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيَ من حيي عن بينة (١).

فلو كان في هذا الكتاب أمر شرعي واجب التبليغ لاستحال شرعاً وعقلاً وعرفاً أنّ يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً أنّ الحادثة يوم الخميس ووفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين بالاتفاق فلماذا لم يبلغه بعد؟ علماً أنه أوصى بعد ذلك بغيره من الوصايا الأخرى الواردة في الحديث نفسه؟

قال النووي:"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه ذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول" (٢).

ثم لو سلمنا لهكذا شبه فستفتح علينا أبواب كثيرة أمام شبه أكبر، إذ على هذه القواعد العرجاء يستطيع أي مفتر كذاب أن يدعي ما يشاء في أي مسألة! فالدين كمل والرسالة تمت وما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد بلغ الدين كله.

وقال شيخ الاسلام:"إن قيل: أن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور، فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أوْلى وأحرى. وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيّنه ويكتبه، ولا يلتفت إلى قول أحدٍ، فإنه أطوع الخلق له، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله، ولو أن عمر - رضي الله عنه - اشتبه عليه أمر، ثم تبيّن له أوشك في بعض الأمور، فليس هو أعظم ممن يفتى ويقضى بأمور ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم بخلافها، مجتهدا في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه" (٣).


(١) الإنتصار للصحب، الرحيلي ص٢٩٣،بتصرف.
(٢) شرح النووي ١١/ ٧٦،وينظر منهاج السنة ٦/ ٣١٥،وفتح الباري ١/ ٢٠٩.
(٣) منهاج السنة ١/ ٣٩٦.

<<  <   >  >>