للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اليقين إلى الشك، والاستكانة للوفرة والتعلق بالمصلحة وإيثار الذات على الجماعة .. هذه التغيرات تطال شرائح الأمة كلها دون استثناء وتمتص فاعليتها تدريجيًا .. ويرصد ابن خلدون فيما يتعلق بقيمتي اليقين والمصلحة أربعة أجيال تمرّ بها الحضارة، فبعد ذلك الجيل الذي سماه ابن خلدون بالبناة (١) - وهو الذي على يديه تنطلق الحضارة، وتعرف الفكرة وجودها الحي الفعال بتضحياته - يأتي جيل يرث المكاسب، ولا يدرك التضحيات إلا بالرواية والسماع، وهي المرحلة التي تتحول فيها الفكرة من عين اليقين إلى "حق اليقين"، وابن هذه المرحلة "مباشِر"، لأنه "مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذ عنه إلا أنه مقصّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له" (٢). ومع ذلك يظل الاشتغال للفكرة من الضروريات، والإحساس بالمجد نابعًا منها، وما تزال دافعًا للبذل، لكن مع بروز الجانب الذاتي والعناية بالمكاسب والرغبة بتحقيق التطلعات الفردية التي تتّحد في تلك المرحلة بالحاجات الجماعية، لأن الفكرة تدخل طورًا تصبح فيه مصدرًا حقيقيًا وحاسمًا لمكاسب وإنجازات مضاعفة، بعد أن كانت قيمًا ووعودًا بالمكاسب. يتولد عن هذا بداية تضخّم في المكاسب يهدّد فيما بعد بالطغيان على القيم والفكرة المولِّدة نفسها، ويتجلى التضخم في القوى الثلاثة الأساسية: المال، والقوة، والمعرفة، وفي سلطة ممثليها.

إلا أن هذه القوى تتعاضد معًا لتأصيل دور الفكرة في


(١) "باني المجد عالم بها عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ١٧١.
(٢) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ١٧١.

<<  <   >  >>