طلبه للعلم: ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو أحلى عندي من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى ببغداد فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء (لقسوتها وصلابتها) فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح.
ويذكر أبو حاتم رحمه الله تجربة أخرى له فيقول: بقيت بالبصرة ثمانية أشهر لطلب العلم فانتهت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئاً فشيئاً حتى بقيت بلا نفقة، فجعلت أطوف مع صديق لي على المشايخ، نسمع منهم الحديث فإذا جاء المساء رجعت إلى منزلي الخالي فأشرب الماء من شدة الجوع، فإذا أصبح الصبح غدا علي رفيقي وانطلقنا ندور على المشايخ وبي من الجوع ما الله به عليم، وفي ذات مرة غدا علي لننطلق فقلت له: أنا ضعيف القوى لا يمكنني ذلك، فقال: ما لك؟ قلت قد مضى علي يومان ما ذقت فيهما طعاماً، فأعطاني نصف دينار
لأتقوى به (١).
(١) الرحلة لطلب الحديث للخطيب البغدادي، الجرح والتعديل ص ٣٦٣.