للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمرهم، وتمزيق ملكهم وإغراقهم في اليم، فالله سبحانه وتعالى أوجد الجن والإنس لحكمة علمها هو، كان مآل أمرهما إلزامهما العبادة وفي هذا القدر كفاية لمن تنورت بصيرته، ومن الدنس خلصت سريرته، ومن اعتقاد الزائغين سلمت لطيفته.

سؤال:

ما حكمة الدعاء مع أن الأشياء مقدرة من عالم الأزل؟

الجواب والله تعالى الموفق للصواب: التحقيق الذي عليه المحققون من علماء المسلمين (١) أن الدعاء متعبد به كتعبدنا بالصلاة والزكاة وغيرهما مما تعبدنا الله تعالى به؛ لإظهار أثر العبودية فيه أكثر من كثير مما تعبدنا الله به من الذلة والفاقة والاحتياج والمسكنة والتبرؤ من الحول والقوة، فإذا بسط الداعي يديه تحققت فيه تلك الصفات ونحوها ولو لم يقصدها؛ لأنها لازمة لكل سائل بالنسبة للمسئول وتفضل الله - سبحانه وتعالى - باستجابة الدعاء كما تفضل بقبول الصلاة وغيرها من العبادات (٢) إذا الشروط استوفيت في كل؛ لقوله تعالى: {وإذا سألك


(١) قوله: أن الدعاء متعبد به إلخ قال العارف بالله سيدي علي الخواص رضي الله عنه: إياك أن تترك الدعاء اتكالا على ما سبق به القدر، فتفوتك السنة فإن الدعاء نفسه عبادة وسنة سواء أجيب الدعاء أم لم يجب فاعلم ذلك
(٢) قوله: إذا الشروط إلخ منها ما أشار له الحديث: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وقول أبي غانم معروف القصري
نحن نخشى الإله في كل كرب ... ثم ننساه بعد كشف الكروب
كيف نرجو استجابة الدعاء ... قد سددنا طريقه بالذنوب
وقال سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه: إن أردت أن يسمع دعاؤك فاحفظ لسانك عن الكلام في الناس، وعن تناول الشبهات، يا ولدي إن شككت في قولي فاعمل به وجرب نفسك شيئا بعد شيء، تعرف صدق قولي، فمن ثَبَت ثُبِّتَ، ومن أطاع أُطيع، فإذا أطعت مولاك أطاع لك النارَ والماءَ والهواءَ والخطوة والإنس والجن ا. هـ ومصداق ما قاله الحديث القدسي: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنته"، وفي رواية "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن استعاذني لأعيذنه ولئن سألني لأعطينه" الحديث، والمراد -والله أعلم- أنه تعالى أفاض عليه من أسرار صفاته حتى صار يقدر على ما لا يقدر عليه من لم يكن كذلك، وقال سيدي علي الخواص: إذا توجهت إلى الله تعالى في حصول أمر دنيوي أو أخروي فتوجه إليه وأنت فقير ذليل فإن غناك وعزك يمنعانك الإجابة ا. هـ أراد رضي الله عنه التخلق بوصف الاضطرار الحقيقي فإنه أعز أوصاف الداعي؛ ولذا قال العارف بالله تعالى أبو محمد المرجاني: من وقع في الاضطرار الحقيقي فلا شك ولا ارتياب في إجابته ومثال الاضطرار الحقيقي مثل من ركب في سفينة فهو مضطر إلى ريح يمشي بها، وإلى بحر هاد قليل الآفات لكنه مطمئن بسفينته راكن إليها، وفي هذا السكون من ضعف الاضطرار ما فيه لو جاء الريح العاصف وحرك عليه هول البحر لكان اضطراره أكثر من الأول، لكنه عنده قوة في نفسه بالسفينة التي هي سبب السلامة غالبا فلو انكسرت السفينة مثلا وبقي على لوح لاشتد اضطراره أكثر من الثاني، لكنه يرجو السلامة لما تحته من اللوح وذلك قدح في حقيقة اضطراره فلو ذهب اللوح وبقي بعد ذلك في لجج البحار لا بر يُرى ولا جهة تُقصد ولا لوح يُرام أن يصعد عليه فهذه الحالة حقيقة الاضطرار دون ما عداها.
وقال في الإبريز: إن الداعين لو انقطعوا إلى الله تعالى في دعائهم ببواطنهم لأجابهم، والإجابة تكون بأحد أمرين إما أن يعطيهم ما سألوا أو يمنعهم ويبين لهم سر القدر وبيان سر القدر إنما يكون للأولياء دون المحجوبين ا. هـ المراد منه فأمثالنا إذا لم تحصل لهم إجابة ولا بيان سر القدر، فينبغي لهم أن يسلموا الأمر لعلمه تعالى، وأنه ما منعهم ذلك بخلا منه ولا عجزا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ولكن ذلك لمصلحة استأثر بعلمها عنا، وإنما عاملنا كمعاملة بعضنا لبعض فإن أحدنا إذا كان تحت حجره من هو قاصر النظر، وكان مراقبا لشئونه أليس من السداد أن لا يساعده على كل ما طلب وأراد حتى يتأمل فيما هو اللائق به فيجيبه له أو غير ذلك فيمنعه أو يعوضه بما هو المناسب لحاله، وقد نبهنا الشارع على هذا الأمر الخطير بحديث الاستخارة الشهير، وقال الإمام الجليل سيدي عبد القادر الجيلي - رضي الله عنه ونفعنا بأسراره -: إن كان الحق - تعالى - لا يجيب عبده في كل ما سأله فيه إلا شفقة عليه أن يغلب عليه الرجاء والعزة فيعترض للمكر به، ويغفل عن القيام بأدب الخدمة فيهلك، والمطلوب من العبد أن لا يركن لغير ربه

<<  <   >  >>