للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خواص الأشياء، وما أودع فيها من العجائب، فهذه مدركة بالعقل، وما سطر فيها من الكتب يكون مؤكدا للعقل، والقسم الثالث كالأمور الواقعة في الآخرة بأجمعها، وما غاب عنا من الفلكيات والأرضين وما فيها من غرائب المخلوقات وبعض العلوم الشرعية، فما ذكرته وما في حكمه مصدره النقل ليس إلا والعقل لا دخل له فيهان فما ورد فيه نص من الشارع وجب الاعتراف به والانقياد إلى ما يقتضيه النص من اعتقاد أو عمل حيث كان ذلك النص ثابتا ثبوتا معتبرا وما لم يرد فيه نص من الشارع وجب الوقف وعدم الخوض بمجرد العقل حيث قررنا سابقا أن العقل في عقال عن ذلك، وهذا أوان الشروع في الأجوبة بعون الله تعالى نسأله أن يوفقنا لعين الصواب.

سؤال: (١) ما حقيقة السماء؟


(١) قوله: ما حقيقة السماء إلخ اعلم أن السؤال عن أمثال هذه الأشياء المغيبة عنا التي لم يكلفنا الله بمعرفة تفاصيلها ولم يطلع عليها إلا الخاصة من خلقه سؤال عما لا يعني؛ ولذا نسب لقس بن ساعدة:
علم النجوم على العقول وبال
وطلاب شيء لا ينال ضلال ... ماذا طلابك علم شيء أغلقت
من دونه الأبواب ليس ينال
وكذا لما سأل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن سبب اختلاف الأهلة أجابهم تعالى بغير ما سألوا عنه، وقد كثرت في هذه العصور طوائف متشبهة بالمسيحيين زاعمين بذلك إدراك التقدم في الدنيا والدين خدعة من أنفسهم الخبيثة وإبليس اللعين، فأضلوا دينهم وما أدركوا دنيا الأروبويين فأضحوا كالغراب الموصوف بقول بعض أولي الألباب:
حسد القطا وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذلك سموه أبا المرقال
فلما أصبحوا منقطعين وارتدوا على أدبارهم خائبين اقتصروا على آراء من نشئوا منهم طبيعيين، وأصبحوا لنقض عرى الإسلام والمسلمين بالمرصاد، كما قال ابن جبير الأندلسي:
قد ظهرت في عصرنا فرقة ... ظهورها شؤم على العصر
لم تقتد في الدين إلا بما ... سن ابن سينا وأبو نصر
نعم إِنْ مَنّ الله على بعض عباده العارفين بإطلاعه على شيء منها فنقبل خبره على الرأس والعين حيث لم يصادم قواعد الدين كما نقل صاحب الإبريز عن سيدي عبد العزيز "أول ما خلق الله نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خلق منه الحجب السبعين وملائكتها والأرواح والبرزخ والعرش، وجعله ياقوتة عظيمة لا يقاس عظمها، وخلق وسط الياقوتة جوهرة فصار مجموع الياقوتة والجوهرة كبيضة بياضها الياقوتة وصفارها الجوهرة، ثم إن الله تعالى أمد تلك الجوهرة وسقاها بنوره صلى الله عليه وسلم فجعل يخرق الياقوتة ويسقي الجوهرة مرة بعد مرة حتى بلغ سبع مرات، فسالت الجوهرة ورجعت ماء، ونزل إلى أسفل الياقوتة التي هي العرش فخلق من صفاته ملائكة ثمانية وهم حملة العرش، وخلق من ثقله الريح وله قوة وجهد عظيم فأمره أن ينزل تحت الماء فسكن تحته فحمله ثم جعل يخدم والبرد يقوى في الماء فأراد أن يجمد ويرجع إلى أصله فجعلت الرياح تكسر شقوق ما تجمد منه فجعلت تلك الشقوق تتعفن ويدخلها الثفل والنتونة وشقوق تزيد على شقوق وتكبر وتتسع، وذهبت إلى جهات سبع فخلق الله منها الأرضين السبع ودخل الماء بينها والبحور، وجعل الضباب يتصاعد من الماء لقوة جهد الريح ثم جعل يتراكم فخلق الله منها السماوات السبع، ثم جعلت الريح تخدم خدمة عظيمة على عادتها أولا وآخرا، فجعلت النار تزيد في الهواء من قوة حرق الريح للماء والهواء، وكلما زندت نار أخذتها الملائكة وذهبت بها إلى محل جهنم اليوم فذلك أصل جهنم فالشقوق التي تكونت منها الأرضون تركوها على حالها والضباب الذي تكونت منه السماوات تركوه على حاله، والنار التي زندت في الهواء أخذوها إلى المحل السابق؛ لأنهم لو تركوها لأكلت الشقوق التي منها الأرضون والضباب الذي منه السماوات، بل تشرب الماء لقوة جهد الريح، ثم خلق من نوره صلى الله عليه وسلم ملائكة الأرضين والسماوات وأمر كلا أن يعبده الأولون في السماوات والآخرون في الأرضين، ومن فتح الله عليه أطلعه على ذلك كله فأول ما يشاهد الأجرام الترابية على التدريج فيشاهد أولا الأرض التي هو فيها ثم بحورها ثم يخرق نظره تخومها ثم ما بينها وبين الأرض الثانية ثم تخوم الثانية وهكذا إلى السابعة فيرى كيف يخرج من أرض إلى أخرى، وما تمتاز به عن أختها والمخلوقات التي في كل منها، ثم يشاهد الجو الذي بينه وبين السماء والأرض، ثم السماء الأولى، وهكذا إلى السابعة على نحو ترتيب الأرضين فيشاهد الأفلاك ونسبتها من السماوات وكيف وضع النجوم التي فيها وكشف سير الشمس والقمر والنجوم ثم يشاهد البرزخ والأرواح التي فيه ا. هـ فأخذنا من كلام هذا العارف رضي الله عنه سير الشمس والقمر والنجوم دون الأرض وانفصال كل من السماوات بعضها عن بعض كالأرضين كما هو ظاهر قوله تعالى {كانتا رتقا ففتقناهما} أي بعض كل عن بعضه، وأن الكل معمور بخلق الله تعالى وكون السماء أصله من الضباب لا يلزم منه بقاؤه على أصله كما أن آدم أصله من تراب ولم يبق على أصله فلم يلزم رجوعه لقول الفلاسفة وأهل الهيئة الحديثة الآتي؛ ولأن قوله: لو بقيت النار لأكلت الضباب ما ذاك إلا لكونه تحول عن أصله، والأدلة على الكثافة قد أطنب المؤلف في نقلها كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

<<  <   >  >>