[آداب السفر للحج والعمرة وغيرهما]
قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٩٧] قال الإمام النووي رحمه الله في آداب السفر: إذا أراد سفراً استحب أن يشاور من يثق بدينه وخبرته وعلمه في سفره في ذلك الوقت، ويجب على المستشار النصيحة والتخلي عن الهوى وحظوظ النفس، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩] فإذا عزم على الثقة فالسنة أن يستخير الله تعالى ويصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب, اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله فقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته).
إذا استقر عزمه لسفر حج أو غزو أو غيرهما فينبغي أن يبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات، ويخرج عن مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع، ويستحل كل من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة، ويكتب وصيته ويشهد عليه بها.
ويستحب أن يوكل مما لم يتمكن من قضائه من ديونه، وأن يترك لأهله ومن يلزمه نفقتهم إلى حين رجوعه، وينبغي أن يسترضي والديه ومن يتوجب عليه بره وطاعته، وينبغي أن يحرص أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، ويستحب للمسافر في حج أو غيره أن يستكثر من الزاد والنفقة ليواسي منه المحتاجين، وليكن زاده طيباً، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:٢٦٧]، ويستحب ترك المساومة فيما يشتريه لأسباب سفر حجه وغزوه ونحوهما من أسفار الطاعة، ويستحب ألا يشارك غيره في الزاد والراحلة والنفقة؛ لأن ترك المشاركة أسلم من أنه يمتنع بسببها من التصرف في وجوه الخير من الصدقة وغيرها، ولو أذن شريكه لم يوثق باستمراره، فإن شارك جاز واستحب أن يقتصر على دون حقه.
وأما اجتماع الرفقة على طعام يجمعونه يوماً فيوماً فحسن، ولا بأس بأكل بعضهم أكثر من بعض إذا وثق بأن أصحابه لا يكرهون ذلك، فإن لم يثق لم يزد على قدر حصته، وقد صحت الأحاديث في خلط الصحابة رضي الله عنهم أزوادهم، وعن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع، قال فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم.
قال: فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه) رواه أبو داود وغيره.
وإذا أراد سفر حج أو غزو لزمه تعلم كيفيتهما، ولا تصح العبادة ممن لا يعرفها، ويستحب لمريد الحج أو العمرة أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في المناسك جامعاً لمقاصدها، ويديم مطالعته ويكررها في جميع طريقه لتصير محققة عنده، ومن أخل بهذا من العوام يخاف ألا يصح منه نسكه، ويستحب له أن يطلب رفيقاً موافقاً راغباً في الخير كارهاً للشر، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن تيسر له مع هذا كونه عالماً فليتمسك به، فإنه يمنعه بعلمه وعمله من سوء ما يقع على المسافر ومن مساوئ الأخلاق والضجر، ويعينه على مكارم الأخلاق ويحثه عليها، والمختار أن القريب والصديق الموثوق به أولى من غيره، ثم ينبغي له أن يحرص على إرضاء رفيقه في جميع طريقه، ويحتمل كل واحد منهما صاحبه، ويرى لصاحبه عليه فضلاً وحرمة، ويصبر على ما يقع منه في بعض الأوقات.
ويستحب لمن سافر أو حج أو غزا أن تكون يده فارغة من مال التجارة ذاهباً وراجعاً؛ لأن ذلك يشغل القلب ويفوت بعض المطلوبات، ويجب عليه تصحيح النية في حجه وغزوه ونحوهما، وهو أن يريد به وجه الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، ويستحب أن يكون سفره يوم الخميس، فإن فاته فيوم الإثنين، ويستحب أن يكون باكراً، ودليل الخميس: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: قرب يوم الخميس لغزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس) رواه البخاري، ودليل يوم الإثنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة يوم الإثنين، ودليل التبكير: حديث صخر الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث جيشاً أو سرية بعثه في أول النهار) ويستحب إذا أراد الخروج من منزله أن يصلي ركعتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين يمنعانك من مخرج السوء، وإذا دخلت إلى منزلك فصل ركعتين يمنعانك من مدخل السوء).
ويستحب أن يودع أهله وجيرانه وأصدقاءه وسائر أحبابه، وأن يودعوه، ويقول كل واحد لصاحبه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى وغفر ذنبك ويسر لك الخير حيثما كنت؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يقول لرجل إذا أراد السفر: ادنُ مني أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فيقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وعن أنس رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أجيد السفر فزودني، فقال: زودك الله التقوى، فقال: زدني، فقال: وغفر ذنبك، قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما كنت)، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه).
والسنة أن يدعو بما صح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أظِل أو أُظل، أو أذل أو أُذَل، أو أَظَلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجهل عليّ)، ويدعو بما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذٍ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول شيطان لآخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)، والسنة إذا خرج من بيته أو أراد ركوب دابته أن يقول: باسم الله، فإذا استوى عليها قال: الحمد لله، ثم يأتي بالتسبيح والذكر والدعاء الذي ثبت في الأحاديث، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)، وعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال)، وجاءت رواية بلفظ: (الكون)، ورواية بلفظ: (الكور) ومعناهما: الرجوع من الاستقامة، أي: الزيادة إلى نقصان.
وعن علي بن ربيعة قال: (شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أُتِيَ بدابة يركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله الحمد لله الحمد لله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين! من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري).
ويستحب أن يرافق في سفره جماعة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) رواه البخاري، ويستحب أن يؤمر الرفقة على أنفسهم أفضلهم وأجودهم رأياً ويطيعوه؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) رواه أبو داود، ويستحب السير في آخر الليل؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل) رواه أبو داود، ويسن مساعدة الرفيق وإعانته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله