للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تحريم التقليد ووجوب اتباع الدليل]

والأئمة الأربعة حصل لهم تلاميذ، عنوا بجمع أقوالهم، ولكنهم ما قلدوهم، وما التزموا بما جاء عنهم في كل شيء، بل كانوا يدونون أقوالهم، ويوافقون منها على ما يرونه موافقاً للدليل، ويخالفونهم فيما يرونه على خلاف الحديث الذي ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

ومعلوم أن أبا يوسف ومحمداً خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ومعلوم أن كثيراً من أصحاب الشافعي هم على خلاف قوله، وكذلك أصحاب الإمام مالك كثير منهم كان على خلاف قوله، وكذلك الإمام أحمد كثير منهم على خلاف قوله؛ لأن المعول عليه إنما هو الدليل، ولكن دونوا هذا التدليل لمسائل الفقه؛ ليعرف ما عندهم من الفقه، ويرجع إليه، وليستفاد منه فيما إذا كان ليس هناك دليل على خلافه، أما إذا كان الدليل موجوداً على خلاف قول الإمام، فإنهم يعملون بما جاء به الدليل؛ لأن هذا هو الواجب؛ فإن الواجب على الأمة هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة.

إذاً: الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أتباعهم دونوا فقههم، ولكن تلاميذهم ومن كان في عصرهم ومن بعد عصرهم بقليل ما كانوا يقلدونهم، والتقليد إنما جاء بعدهم، أعني: أن التقليد الأعمى الذي هو التزام المذهب بحيث لا يخرج عنه، ولو كان الدليل على خلافه، هذا ما وجد إلا في القرن الرابع، كما قال ذلك العلماء، ومنهم ابن عبد البر رحمه الله.

فإذاً: الأئمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم كغيرهم من أئمة المسلمين، بذلوا جهدهم في تحصيل الحق والهدى، واجتهدوا، وكل واحد من المجتهدين -الأئمة الأربعة وغيرهم- ليس معصوماً من الخطأ، وليس هناك أحد معصوم بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فالمعصوم هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما من بعده من الصحابة ومن بعدهم فلا عصمة لأحد بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا يبحثون عن الدليل؛ لأن فيه العصمة، وكانوا إذا قالوا بالرأي ووجد الدليل على خلافه تركوا الرأي وذهبوا إلى الدليل؛ لأن هذا مقتضى التكليف، وهذا مقتضى التشريع؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليتبع، وليسار على نهجه.

وقد جاء الأمر بذلك في آيات كثيرة: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]، فلا خيار مع حكم الله ورسوله عليه السلام، ويقول الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:٥٩]، ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠]، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] يقول الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ؛ فيهلك.

لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد، بل يجب أن يتبع، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة أن محمداً رسول الله ليست كلاماً يقال على الألسنة فقط، بل لها مدلول لابد من وجوده لتحقيق هذه الشهادة، وقد لخص هذا المدلول أحد علماء المسلمين فقال: طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

فيصدق العبد بكل خبر يخبر به عليه الصلاة والسلام، سواء كان ماضياً أو مستقبلاً أو موجوداً لا نشاهده ولا نعاينه، فكل ما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من خبر فالواجب علينا التصديق، وهذا معنى شهادتنا بأن محمداً رسول الله، فإذا أمر فيجب السمع والطاعة، وإذا نهى فيجب السمع والطاعة، ولا يجوز لنا أن نتعبد الله بعبادات محدثة ما شرعها رسول الله، بل لابد من طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا هو معنى أشهد أن محمداً رسول الله.

والإنسان في قبره لا يسأل إلا عن ربه، وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.

فإذاً: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة ومتعينة، ولا خيار فيها، والواجب إنما هو الاستسلام والانقياد، وهذا هو معنى كون الإنسان مسلماً؛ لأن المسلم هو المستسلم المنقاد لله، طبقاً لما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام.

إذاً: عرفنا أن الحق إنما هو العمل بما كان عليه القرن الأول، فالذي كان عليه القرن الأول هو الذي كان عليه الناس في القرن الثاني، وهو الذي كان عليه الناس في القرن الثالث، وهو الذي يجب أن يكون الناس عليه إلى يوم الدين؛ لأن القرن الأول هم خير القرون، وقد كان طريقهم في العمل، وطريقهم في التلقي هو البحث عن الدليل.

إذاً: هذا الذي كان في القرن الأول هو الواجب أن يكون في كل زمان ومكان.

<<  <  ج: ص:  >  >>