للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقوال العلماء في الصحابة رضي الله عنهم]

بعد هذا أذكر بعض النقول التي تكلم بها سلف هذه الأمة في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً، ويدخل فيهم معاوية رضي الله تعالى عنه، وكذلك ما تكلموا به في حق معاوية رضي الله تعالى عنه على وجه الخصوص.

يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

وقال شارح الطحاوية: (فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى.

وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى.

وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد! ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة).

وقال البغوي في شرح السنة: (قال مالك: من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:٧] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠] الآية.

وذُكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:٢٩] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩]، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية).

وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠] قال الشوكاني بعد أن فسّر الذين جاءوا من بعدهم -أي: بعد المهاجرين والأنصار- بأنهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين: (أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم؛ فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غّلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله، بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة.

فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بالزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلّم من الرافضة أو صاحب أحداً من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الكبار في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر.

وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله ورسوله وخير أمته، وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط).

هذا ما قاله الشوكاني رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية.

ثم قال: (أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه: أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠] الآية.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في (المصاحف) وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) ثم قرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:١٠]).

قلت: وقد أخرج مسلم رحمه الله في أواخر صحيحه هذا الحديث بدون تلاوة الآية.

وقال النووي في شرحه: (قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام يقولون في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا.

وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠]، وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم، والله تعالى أعلم).

ا.

هـ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:٨] الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفأنت منهم؟ قال: لا.

ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} [الحشر:٩] الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا.

ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:١٠] الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو.

قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: (ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة).

وقال: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن في أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قُبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلّده في الحبس حتى يتوب ويراجع).

وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم أو نقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠]، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) إلى أن قال: ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول وعمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كاذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم -إن صدر- حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المُدّ من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.

ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفّر عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور.

ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح.

ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِمَ يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا ي

<<  <  ج: ص:  >  >>