[تدوين السنة]
وقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة من يكتب، كـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم بعد ذلك بدأ تدوين السنة وكتابتها، وقد بدأ تدوينها في القرن الثاني على طرق مختلفة، ثم اتسع التدوين في القرن الثالث، وكان على وجه أتم، وعلى وجه أكمل؛ ولذلك سمي ذلك العصر بالعصر الذهبي لتدوين السنة.
والقرن الثالث هو العصر الذي دون فيه الصحيحان، والسنن الأربعة، وكثير من الكتب دونت في ذلك الوقت، ثم حصل التدوين بعد ذلك.
وكان من التدوين ما هو متجه إلى تدوين الحديث دون تعرض لمسائل الفقه أو الاستدلال بالأحاديث على مسائل الفقه، كما حصل بالنسبة للكتب المؤلفة على المسانيد، كالتي ألفت على مسانيد الصحابة، فالمؤلف يذكر الصحابي، ثم يذكر ما له من الأحاديث من غير أن يلاحظ فيها أبوابها ودلالتها، وإنما يذكر أحاديث كل صحابي على حدة، فيأتي إلى أبي بكر فيورد ما له من الأحاديث، ثم يأتي إلى عمر فيورد ما له من الأحاديث، وهكذا، فهذا تدوين للسنة من غير تعرض لمسائل الفقه.
وهناك تدوين على النحو الآخر، وهو الذي جمع بين الرواية والدراية، أي: بين الفقه والحديث، مثل صحيح البخاري، فإن البخاري جمع فيه بين الفقه والحديث، فهو كتاب رواية ودراية.
وهذا الفقه يتمثل في تراجم الأبواب التي يعقدها، ثم يورد الأحاديث مستدلاً بها على ما ترجم به، وأحياناً تكون دلالة الترجمة على الحديث ودلالة الحديث على الترجمة خفية ودقيقة، لا يدركها كل واحد، وهذا دليل على دقة البخاري في فهمه، وجودة فقهه رحمه الله، وقد قال بعض العلماء: فقه البخاري في تراجم صحيحه، ولهذا ألفت مؤلفات خاصة في تراجم الصحيح، فهو يذكر الترجمة وكيف يطابق الحديث الترجمة.
بل إن هذه الغاية -التي هي العناية بالفقه- هي التي جعلت البخاري يفرق الأحاديث على الكتب والأبواب في أماكن مختلفة، أي: من أجل الاستدلال على ما يريده؛ ولكنه إذا أورد الحديث مكرراً لا يورده بنفس الإسناد أو بنفس المتن، بل يكون هناك شيء من الفرق، فيورده -مثلاً- في موضع عن شيخ، ثم يورده في موضع آخر عن شيخ آخر، فتجد أنه عندما يذكر الحديث في أماكن متعددة يأتي بفوائد جديدة غير الفوائد التي كانت موجودة في الموضع الأول، فيكون قد جمع بين تعداد الطرق وتنوعها وتكررها، وبين دلالتها على مسائل الفقه المختلفة.
وهذا المقصد الذي قصده جعل البخاري أحياناً يورد الحديث في مكان خفي، وما كلٌ يتفطن أن الحديث موجود في صحيح البخاري، بل إن بعض العلماء ينفي أن يكون الحديث في البخاري، فيقول: هذا الحديث ليس في البخاري، والسبب في هذا أنه يبحث عنه في مكان يظن أنه مظنته، والبخاري يكون قد أورده في مكان آخر من أجل الاستدلال على مسألة دقيقة، فلا يتفطن له، وهذا ما حصل للحاكم في المستدرك، فإنه أحياناً يقول: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه، والواقع أنه قد خرجه، وهو موجود في الصحيح، ولكن السبب أن الحاكم أحياناً يبحث عنه في مظانه فلا يجده، ويكون البخاري قد ذكره في مكان آخر.
وأنا أضرب مثلاً من الأمثلة التي تدل على دقة فهم البخاري رحمه الله: فإنه في كتاب الإجارة أورد باباً، ثم أورد تحته قطعة من حديث طويل موجود في مواضع متعددة من الصحيح، والباب الذي أورده في كتاب الإجارة هو قوله: (باب: إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد شهر أو سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل)، فهذا عنوان الترجمة، ومعنى هذا أن العقد إذا أبرم -مثلاً- في شهر شوال على أن التنفيذ يبدأ في محرم فإنه جائز، يعني: أن الإنسان إذا عقد هل يلزمه أن يبدأ العمل بعد العقد مباشرة أم لا؟ هذه المسألة خلافية بين العلماء، وهي موجودة في كتب الفقه، فمنهم من يقول: إنه لا يجوز، ومنهم من يقول: إنه يجوز؛ ولكن البخاري عقد هذه الترجمة وأورد تحتها قطعة من حديث الهجرة الطويل، الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ معه رجلاً من بني الديل، وهو حديث عائشة قالت: (واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه الغار بعد ثلاث).
يعني: أن هذا العمل الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه يدل على هذه المسألة من مسائل كتاب الإجارة.
إذاً: كتاب البخاري هو كتاب حديث وكتاب فقه، وكتاب رواية وكتاب دراية.
وكذلك كتاب الموطأ؛ فإنه جمع بين الفقه والحديث، وهكذا الكتب الأربعة التي هي: سنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة، فهذه الكتب الأربعة مبنية على هذا المنوال الذي هو الترجمة لموضوع من الموضوعات، ثم إيراد الأحاديث أو الحديث تحت الترجمة؛ ليبين فيه أن هذا الموضوع دل عليه هذا الحديث.
بل إن بعضهم -مثل النسائي - أكثر من التراجم في كتابه مع قلة الأحاديث فيه؛ لأن سنن النسائي أقل كتب السنن حديثاً، ولكنه مملوء بالأبواب، ومملوء بمسائل الفقه المختلفة، وأذكر مثالاً من الأمثلة التي تدل على دقة فهمه في الاستنباط: قال في أول كتاب الطهارة: (باب استياك الصائم في العشي) يعني أن الصائم يجوز له أن يستاك في العشي، فهذا الباب أتى به في كتاب الطهارة، وأورد تحت هذا الباب حديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وأخذ من هذا الحديث أن الاستياك للصائم بعد الزوال لا بأس به، وأنه جائز، وهذا الحديث يدل عليه؛ لأن قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) يدخل فيه صلاة العصر؛ ومعلوم أن صلاة العصر في العشي، وهي داخلة ضمن الصلوات، فعلى هذا يجوز أن يستاك الإنسان عند صلاة العصر، ويستاك في العشي، ولا محذور في ذلك.
وهناك جماعة قالوا: إنه لا ينبغي له أن يستاك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، لكن الحديث الذي بوب عليه النسائي يدل على جوازه، وأنه لا مانع منه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وهذا من دقة الفهم ودقة الاستنباط عند النسائي رحمه الله تعالى.
إذاً: المحدثون رحمهم الله عندما دونوا الكتب منهم من جمع بين الفقه والحديث، فكتبهم كتب رواية ودراية، أي: كتب حديث وكتب فقه.