ولم نزل هناك ليالي وأياماً آمنين، وأعيان المدينة يهرعون إلينا مسلمين وداعين وملتمسين للدُّعاء ومؤمنين ومعظمين ومبجلين ومكرمين، ونحن في لذّة عيش، سالمين من الكدر والطيش، لولا ما يعترضه من تذكر البلاد، والتألم لمفارقة الأهل والأولاد، فكان كلّما هنئ العيش تنغَّص، وكلّما ازداد الأنس تنقَّص، وكلما هممنا ببسط وانشراح أدركنا بسيط هم وأتراح، كما قيل:
مُنغصُ العيش لا يأوي إلى دعَةٍ ... منْ كان ذا بلدٍ وكان ذا ولدِ
والساكنُ النفسِ مَنْ لم ترضَ همتّه ... سُكْنى بلادٍ ولم يشكو إلى أحد
ولولا ما مَنَّ به تعالى من مجالسة مولانا السيد ليلاً ونهارا، وتملينا بطلعته السعيدة عشياً وأبكارا، وتحلينا بدرر ألفاظه ومؤانسته مساءً وأسحارا، لتفتت القلب جداداً وانفطر الكبد انفطارا، فكنت أرتاح بروح مؤانسته ارتياح اللهفان للنسيم البليل، وأشفى بمكالمته كَلْم القلب العليل، وأروى برؤيته ما به من الغليل، وأدخل في الليل حالة السكون بقلب خافق فيه من الأدواء دخيل، وأتلقى المنام بطرف شحيح بالكرى بخيل، وكلما فتشت للأوطان في فكري ذنباً أجعله سبباً