للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المثال الثاني: حديث: (استأذنت ربي أن أذهب إلى قبر أمي فأحياها الله)]

حديث عائشة في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أذهب إلى قبر أمي فأذن لي، فأحياها الله فدعوتها إلى الإسلام فأسلمت، ثم ردها).

وهذا الحديث يردده السفهاء والمبتدعة، وقد صححه الإمام السيوطي عليه رحمة الله تعالى.

فـ ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وقال: هذا الحديث لا يصحح إلا من رجل عديم العلم قليل الفهم.

وهذا كلام جيد جداً لمن يتصدى لهذا الحديث ويصححه؛ لأن ذلك يصادم مصادمة صريحة لكتاب الله جل في علاه، وذلك أن الله جل في علاه كتب على نفسه أن من مات لا يرجع إلى هذه الدنيا، فقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].

وهناك حديث عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسند صحيح: (أنه لا أحد إذا مات ورأى الجنة يتمنى أن يرجع إلى هذه الدنيا إلا الشهيد، فيتمنى أن يرجع ليقتل مرة ثانية في سبيل الله سبحانه جل في علاه).

إذاً: فهذا تصريح بأن الله جل وعلا كتب على نفسه أن من أماته فلا يرده مرة ثانية، فهذا أولاً.

والأمر الثاني: أن من مات فقد عاين الغيب وأصبح الغيب بالنسبة له شهادة، فلا يحتاج إلى تمحيص نظر في تصديقه؛ لأنه قد عاين الغيب.

وأيضاً ناهيك على التصريح بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:٢١٧]، وهي قد ماتت كافرة، ومن مات وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم، ولا يمكن أن ترد.

وأما الإمام الشوكاني فقد نظر في المتن -ناهيك عن أن إسناده مهلهل- فوجده يصادم الكتاب من كل وجه، فقال: لا يمكن أن يصح هذا الحديث، فهو كلام باطل؛ لأنه مصادم لكتاب الله جل في علاه من كل وجه.

فانظروا كيف أن المحدثين ينظرون إلى حديث النبي فمحصون النظر فيه تضعيفاً وتصحيحاً، فإن خالف الكتاب من كل وجه أصبح هذا الحديث لا قيمة له، ويكونون مردوداً؛ لأن الكتاب نقل إلينا بالتواتر فأصبح كالجبل الأشم الشامخ، فلا أحد يستطيع أن يتكلم فيه، فإن خولف من كل وجه فلا يمكن أن يكون هذا قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة من الله كما أن الكتاب من الله، والله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، ولذلك فإن السنة لا يمكن أن تصادم القرآن، ولذا قال الشوكاني: هذا الحديث موضوع.

وهذه المسألة صعبة جداً، وهي على أهل البدع أصعب ما تكون؛ لأنهم كما قلت يتبنون أن أم النبي وأن أبا النبي في الجنة وليسا في النار، وأن الله قد أحياهما للنبي فأسلما على يديه محتجين بهذا الحديث الباطل.

وأقول: إن حكم أم النبي وحكم أبي النبي صلى الله عليه وسلم -وإن استغرب المستغربون- أنهما في النار خالدين مخلدين فيها نعوذ بالله من ذلك، فحكمة الله اقتضت ذلك، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبي وأباك في النار) صريح جداً في هذه المسألة.

وهنا يأتي إشكال من أهل البدع والضلالة في هذا الباب، فإنهم يقولون لنا: ماذا تقولون في أهل الفترة؟ وهل والد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة؟ فنقول: أهل السنة والجماعة يرون أن أهل الفترة ممتحنون يوم القيامة، فمن أطاع ربه منهم دخل الجنة، ومن عصى ربه منهم دخل النار.

وقبل الجواب عن هذا الإشكال نقول: أهل الفترة هم الذين م يبعث إليهم رسول، فإذا قلنا: لم يبعث لهم رسول فأبوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، وهنا

السؤال

هل أهل الفترة مطالبون بديانة معينة كدين عيسى أو دين موسى أو دين إبراهيم، فإذا كان لهم ديانة فليسو من أهل الفترة، وهنا عندنا دليلان متعارضان: الأول: أنهم من أهل الفترة؛ لأنهم لم يبعث لهم رسول، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].

والثاني: ليسوا من أهل الفترة؛ لأنهم على دين إبراهيم عليه السلام كما سنبين، إذاً فكيف حل هذا الإشكال؟

و

الجواب

أولاً: أن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥] ليس المقصود به الرسول بذاته، وإلا فإن الأمريكان الآن والروس الكفار مثلاً: سيكونون من أهل الفترة؛ لأنهم ما جاءهم رسول!! ولو قلنا: بأن ذات الرسول هي المقصودة في الآية فمعنى ذلك: أنه لا يمكن أن تقام الحجة إلا بالرسول، لكان المقصود بالآية هو: بلاغ الحجة، أي: أن تبلغ الحجة والرسالة، سواء كانت من الرسول، أو من وكيل الرسول، أو من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:١٨].

فالعلماء هم الذين يقومون مقام الرسل في تبليغ الرسالة، فتنقطع الحجة بذلك.

وهنا نقول: إن والدي النبي صلى الله عليه وسلم ما جاءهما رسول، فإن جاءتهما الحجة فهما ليسا من أهل الفترة، وإن لم تأت إليهما الحجة فهما من أهل الفترة، وهذا الذي أشكل على ابن كثير، ولذلك كان يقول: عصر ما قبل النبوة في مكة اخلتط فيه الأمران فكان فيهم من أهل الفترة حقاً؛ لأنه لم يأتهم الدين الصحيح، وفيهم من أتاه الدين الصحيح.

فوالدا النبي صلى الله عليه وسلم جزماً قد أتاهما الدين الصحيح والحجة الصحيحة، وهي: التوحيد، ولاسيما وأن كل إنسان كان له أن يتعبد بشريعة نبي من الأنبياء، لكن لا بد أن يكون على أصل الدين، وهو: التوحيد، ولذلك كان ورقة بن نوفل يهودياً، ثم تنصر وأخذ بشريعة النصرانية، لكنه كان على دين التوحيد.

وأهل مكة بلغهم دين إبراهيم عليه السلام، لكنهم لوَّثوا دين إبراهيم، فأدخلوا على التوحيد الشرك.

ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد التصاوير التي صورت في الكعبة كصورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام والعياذ بالله فقال: (كذبوا والله، قد علموا أنه لم يستقسم بالأزلام قط)، إذاً فهذه فيه دلالة من النبي على أن أهل مكة قد وصلهم دين إبراهيم النقي ولم يأخذوا به، والدليل الذي يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأن أباه في النار فقال: (إن أبي وأباك في النار).

ففيه دلالة على أنهم قد بلغتهم الحجة؛ لأننا نقول: بأن الله لا يعذب أحداً لم تبلغه الحجة، بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، ولقول الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى} [الملك:٨ - ٩].

فلو احتجوا وقالوا: لم يأتنا نبي لكان لهم الحجة على الله، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أهل الفترة: (ثلاثة أو أربعة لهم الحجة على الله ومنهم رجل لم يأته النذير، فيقول: لم يأتني رسولك، فتكون له الحجة على الله يوم القيامة، فيختبره الله فيقول له: أدخل النار، فإن دخلها كانت برداً وسلاماً عليه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة).

فهنا نرى أن السبب بين في أن دين إبراهيم قد وصلهم، وقد جزم بأن أباه في النار، وجزم أيضاً بأن أمه في النار عندما قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، ثم استأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي).

وهذا الحديث يعضد القول بأن دين إبراهيم قد بلغ أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ مَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:١١٣].

والشاهد هنا: ((لِلْمُشْرِكِينَ))، فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لها؛ لأنها كانت مشركة، ولا توسم بأنها مشركة إلا إذا أتاها التوحيد فأشركت، فاستحقت النار، فهذه دلالة واضحة على أن أم النبي صلى الله عليه وسلم في النار، وهذه حكمة الله البالغة، ونحمد الله على نعمة الإسلام ليل نهار، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فعم النبي في النار، وأم النبي في النار، وأبو النبي في النار، وجد النبي في النار، ولن يشفع النسب في ذلك؛ لأنه ليس بين الله وبين عباده نسب.

<<  <  ج: ص:  >  >>