للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة]

قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)].

هذا الحديث داخل في أدلة إثبات العلو لله عز وجل، وفيه إشارة إلى أن المشركين كانوا في الجملة يقرون بأصول الصفات، وهذا من دلائل أهل السنة في ردهم على المعطلة، فالمعطلة تقول: إن إثبات الصفات على ظاهرها مخالف لدليل العقل.

قال علماء السنة: إن القرآن نزل وعارضه المشركون بالتكذيب، وقالوا عن صاحبه الذي نزل عليه: إنه ساحر، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥]، إلى غير ذلك، فالقصد أن آيات الصفات لو كان فيها ما يعارض دليل العقل لاعترض به المشركون.

فإنه لم ينقل عن واحد من المشركين، لا من العرب ولا من اليهود ولا من النصارى؛ الذين بلغهم القرآن، أنه اعترض بدليل عقلي على صفة من الصفات، مع أنهم حاولوا الطعن في بعض أخبار القرآن من جهة العقل، كقول الله تعالى عن كافرهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨]، فهذا اعتراض بالعقل على مسألة البعث، ولما ذكر سبحانه البعث قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧]؛ لكنه لم يذكر أنهم كذبوا بأسمائه وصفاته، فهذا يدل على أن المشركين لم يقع منهم الإنكار لشيء من أسماء الرب وصفاته في الجملة.

فإن قال قائل: فقد أنكر سهيل بن عمرو اسم الرحمن في صلح الحديبية، كما جاء في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم))، فهذا ليس من باب المعارضة العقلية، بل من باب: أن سهيل بن عمرو ومن في دائرته من المشركين ما كانوا يعرفون أن هذا الاسم مضاف لله سبحانه وتعالى.

فهذا نوع من الجهل وليس من المعارضة العقلية، والدليل على ذلك: أن المشركين كان منهم من يسمى بعبد الرحمن، كـ عبد الرحمن الفزاري، الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قرد - كما في الصحيح- وكان امراً مشركاً، مات على الشرك.

فالقصد أن قول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، هو كما قال لا يدري ما هو، أي: أنه جاهل به وليس معارضاً له بالعقل، ولهذا لم ينكر سهيل أن الله رحيم؛ لأنهم كانوا يقرون بذلك، ولذلك قال عنترة:

يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها

وفي الجملة فباب الربوبية قد أقر به المشركون.

وتعلم أن الصفات والأسماء هي من أخص مقامات الربوبية، ولكن القول: إن مشركي العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ليس على إطلاقه، بل الصحيح أنهم ليسوا محققين له، وإنما هم مقرون به في الجملة، وإلا فحال الجاهليين العرب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته؛ أنهم على قدرٍ من الغلط في توحيد الربوبية.

ومن ذلك مثلاً: الاستقسام بالأزلام، أي: إمضاء الأمر أو عدم إمضائه، على ما يفعلونه في أقداحهم أو أزلامهم، وهذا طعن في توحيد الربوبية.

ومن ذلك أيضاً: الطيرة، فهي لا تحقق توحيد الربوبية، إلى غير ذلك.

وإن كان هذا في الجملة: من عوائد أهل الجاهلية وإلا فهم غالباً لا يصدقون بمسألة الأزلام.

ولهذا روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام قد وضعوها داخل الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله! أما لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط).

ومما يروى عن امرئ القيس الشاعر الجاهلي المعروف، أن بني أسد عندما قتلت أباه ذهب يستقسم بالأزلام: هل يأخذ الثأر لأبيه أو لا يأخذ؟ فاستقسم الأولى، فخرج أنه لا يفعل، ثم الثانية، فخرج لا يفعل أيضاً، والثالثة كذلك، وكان عند العرب: أنه إذا ظهر المنع في الأول والثاني والثالث، ينقطع، فلما انتهت المحاولة الثالثة، وخرج أنه لا يفعل، قام وكسّر الأزلام، وقال: لو أنت قتل أبوك ما فعلت هذا.

فكان فعلهم هذا يدل على عوائدهم، أكثر مما يدل على حقائق ما في نفوسهم، ومع ذلك فهو شرك.

<<  <  ج: ص:  >  >>