للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استدلالهم بقصة موسى والرد عليهم]

موسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه عز وجل الرؤية قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، وهذا ليس نفياً مطلقاً للرؤية إنما هو نفي للحال، فإن موسى كان يسأل ربه أن يراه في الدنيا لا أن يراه في الآخرة أو الجنة.

والنفي إنما وقع على طلب الدنيا، لذا كان قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] لا يصح دليلاً للمعتزلة والجهمية ومن وافقهم على نفي الرؤية، فهم يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، وهذا ليس صحيحاً، فإن (لن) لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، بمعنى: أن إفادتها لذلك إنما هو بحسب السياق، وفي شعر العرب وأقوالهم سياق فيه ذكر (لن) من النفي الذي يتضمن التأبيد وفي كلامهم سياق آخر فيه ذكر (لن) بالنفي الذي لا يتضمن التأبيد.

والقول الصواب إذا قيل لك: هل (لن) تقتضي تأبيد النفي؟

الجواب: قد تستلزم التأبيد وتقتضيه وقد لا تستلزمه وإن كانت تقتضيه؛ لأن البعض إذا أراد الرد على المعتزلة قال: إن (لن) لا تفيد التأبيد مطلقاً، وهذا غير صحيح.

ومما يدل على أنها لا تستلزم التأبيد في سائر المقامات: أنها لو كانت تستلزم التأبيد في سائر السياقات لما جاز تحديد أو تقييد الفعل بعدها بغاية، وقد جاء تحديد الفعل بعدها في كلام العرب وفي القرآن بغاية، مثل قول الله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:٨٠]، فهذا يدل على أن (لن) في هذا السياق لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، ومثل هذا سياق قصة موسى؛ لأن السؤال من موسى عليه الصلاة والسلام إنما كان عن الحال.

ومن الجواب في هذه الآية نفت المعتزلة والإباضية وغيرهما ممن دخلت عليهم شبه أقوال الجهمية، رؤية الله تعالى، بل ويعدون إثباتها نقصاً، ويقولون: إن هذا هو المذهب الحق الذي ذكره الله في القرآن في قوله: (لَنْ تَرَانِي).

وهنا سؤال موجه إليهم: إذا كان إثباتها نقصاً في حق الله، وأن من كماله ألا يرى، وأن من يقول: إنه يُرى مشبه منقص لله سبحانه وتعالى عن كماله ..

إذا كان الأمر كما قالوا؛ فإنه يلزم أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام أحد رجلين: -إما أنه جاهل بما هو كمال لله- وإما أنه كان متعدياً على ربه.

فإن قالوا: إنه متعدٍ.

فهذا طعن في رسالته وفي ذكر الله له بالثناء.

وإن قالوا: إنه كان جاهلاً، فإن جهله هنا إسقاط لرسالته ولنبوته ولاصطفائه؛ إذ كيف يكون جاهلاً بتوحيد الله؛ لأن القول هنا في الصفات قول في التوحيد، والمعتزلة يعدون قولهم بنفي الصفات توحيداً لله، وهو الأصل الأول من أصولهم الخمسة: التوحيد.

إذاً ..

يمتنع أن يكون موسى جاهلاً بما هو من أصول التوحيد ..

أو توحيد العلم والمعرفة، وهو ما يليق بالله وما لا يليق به، ولهذا لا ترى أن الله عاتب موسى على سؤاله، بينما نوح عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه مسألة ليست من الأصول المطردة في أصل معرفته سبحانه، وهو نجاة ابنه، قال الله له: {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦]، فهل قيل لموسى مثل ذلك، مع أن مسألة موسى أكبر من مسألة نوح، فدل هذا على أن سؤال موسى ممكن أصلاً وشرعاً، ولكنه أمر يتعلق بمشيئة الرب وإرادته، وبه تكون المفاضلة بين المؤمنين وغيرهم في الجنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>