أن جمال الطبيعة في هذا الفصل قد جاء إليه، وكأنه يدعوه إلى الابتهاج به، والفرح بمقدمه وفي تعريف الربيع (بأل) العهدية، ما يثير في النفس ما ألفته في هذا الفصل الرائع من جمال وحياة، وفي اختيار كلمة (الطلق) ما يوحى بمعنى الحرية التى يشعر الناس بها في الطبيعة، فليس فيها شذوذ بسحب متراكمة ولا مطر، ولا أوحال في الطرق، تقيد الناس وتحبسهم في بيوتهم، ويشعرون بها في أنفسهم، غير مقيدين بمنازلهم حينا، وبنوع من الملابس حينا آخر، وتأمل كلمة (يختال) فلعلها تصور لك اختيال الأزهار يداعبها مر النسيم، وفي تعبيره (يختال ضاحكا) ما يوحى إليك بأن الشاعر لم يحس بالربيع مظاهر تراها العين فحسب، ولكنه حياة تتدفق في جميع أرجاء الكون، فيهتز عطفه اختيالا، ويبتسم ضاحكا، ويزداد شعور الشاعر بهذه الحياة، ويقوى إحساسه بإفصاح الربيع عن جماله وبهائه، فيخاله يكاد يتكلم ويبين، ويطرد إحساس الشاعر بحياة الربيع، فيرى هذه الأزهار التى تملأ الجو بأريجها مخلوقات، كانت تغط في نوم عميق، فجاءها الربيع ينبهها أن تستيقظ من رقادها، وكأنما زارها في الدجى، يؤكد ألا يسفر وجه الصباح، حتى تكون قد أخذت بهجتها وازينت، كى لا يضيع عليها شىء من جمال النهار، وذلك هو السر في تنبيه الربيع لها، فى غسق الدجى، ثم ألا ترى في استخدام (ورد) هنا ما يحمل إليك أريج أزهار الربيع، وفي استخدام كلمة (أوائل) ما يشير إلى نشاط هذه الزهرات الأولى من أزهار الربيع، وفي اختيار كلمة (نوّم) ما يوحى إليك بما كان فيه الزهر من غفلة عن جمال الحياة، قبل أن ينبهه فصل الجمال، وإن هذه الغفلة والنوم ليحتاجان إلى إيقاظ عنيف، ولذلك استخدم الشاعر كلمة (يفتق) التى تدل على شىء من العنف، ثم ألا ترى أن الدفء مبعث اللجاج في النوم، فمن المعتاد أن البرد يوقظ النائم، وبذلك ترى السر في اختيار (برد الندى) وسيلة لإيقاظ الأزهار، ولما كان شعور الشاعر بتدفق الحياة في الكون قويّا دافقا، أحس كأن هذا الورد يفشى سرّا، كان يخفيه، واختار لتعبيره كلمة (يبث) التى تشعر بأن الحديث الذى يذيعه الورد حديث في خفوت يشبه الهمس، وقال (مكتما) لينقل إلى نفسك ما كان عليه جمال الزهرة قبل تفتحها من سرية محجوبة لا تبين، فكثير من الزهر يتشابه قبل أن تتفتح أكمامه، ويقف المرء أمامه، لا يتبين ما يكون عليه أمره، بعد أن يتفتح، فجماله سر مكتم لا ينم عنه شىء، واختار الشاعر كلمة (حديث) التى توحى بهذا التجاوب النفسى بين الطبيعة والإنسان.