جاء محمد بدينه الجديد، يدعوهم إلى ترك ما ألفوه، من عبادة الأوثان، وما اعتادوه في حياتهم الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، ويفرض عليهم فروضا، تتعب أبدانهم: من صوم، وصلاة، وتنقص أموالهم: من صدقة، وزكاة، ويحرم عليهم الخمر والميسر، وألوانا من الزواج كانت مألوفة عندهم، وغير ذلك من فروض وتكاليف، وجدوا حمل أعبائها ثقيلا عليهم، وتعرض محمد لهم، فسب آلهتهم، وسفه أحلامهم، وأثار ثائرتهم، فهبوا يدفعون محمدا بكل قوتهم، وقدم لهم القرآن دليلا على صدق دعوته، وبرهانا على أنه رسول، وتحداهم، إذا كانوا فى مرية من أمره، أن يأتوا بقرآن مثله، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء ٨٨).
قرأ محمد ذلك على ملأ من قومه، والمعارضين منهم، فأبلسوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (هود ١٣)، فعجزوا فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة قل: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة ٢٣، ٢٤).
وقد كان العرب عند مبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) فى نهضة لغوية شاملة، فيهم نوابغ الشعراء، ومصاقع الخطباء، ولهم- كما يقول الجاحظ- «القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج، واللفظ المنثور»، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والبلاغة والذلاقة، ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم (١) والقرآن نفسه يعترف بلددهم، وشدة خصومتهم، فقال عنهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (الزخرف ٥٨). وقال لمحمد: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)(مريم ٩٧). ولكنهم وقفوا في حيرة من أمر هذا الكتاب، فقد وجدوا له في أنفسهم تأثيرا بالغا، لا يجدونه لغيره من ألوان الكلام، فنسبوه حينا إلى السحر، وحينا إلى الشعر: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (المدثر ٢٤). بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ