والقرآن بذلك كله يعنف رجلين: أحدهما قد كفر باليوم الآخر، وأنكره، واعتقد أن ليس ثمة سوى هذه الحياة الدنيا، فاغتربها، ونسى اليوم الآخر وما فيه، وذلك هو المقصود بمعظم هذه الآيات، وقد ذكرنا أن الإيمان باليوم الآخر، ركن أساسى من أركان الدين، إذ الإيمان به يدفع إلى العمل الصالح رغبة أو رهبة، وثانيهما رجل يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعل همه كله أن يظفر من الحياة الدنيا بأوفى نصيب، ومثل ذلك الرجل جدير ألا يحكمه ضميره، فيعمل ما لا يرضيه في سبيل الفوز بدنياه، فيبعد بقدر كبير عن قوانين الإنسانية السليمة، ولا يعنيه إلا أن ينال مآربه وآماله، وصور لنفسك تاجرا أو صانعا أو مستخدما لا يعنيه سوى الظفر بآماله في الغنى، ولا سلطان عليه من الإيمان بأنه محاسب يوم القيامة، وخيل لنفسك ما يرتكبه من الآثام، وما يلم بعمله من النقائص، وما قد يرتكبه من ألوان الغش والتزوير، ما دام كل هذا يدنيه من أمله في الثروة وبلوغ المناصب السامية، فالإيمان باليوم الآخر هو الرقيب الذى يدفع الإنسان إلى محاسبة نفسه، قبل أن يحاسب يوم الدين، وبه تستقيم شئون الحياة، ويخشى الناس الجزاء العادل إن هم فرطوا، أو أساءوا.
على هذا الوجه نفهم هذا العنف الموجه إلى هؤلاء الذين يؤثرون بحبهم وجهدهم تلك الحياة الدنيا، ولا نفهم أن القرآن يدعو إلى كراهية الحياة الدنيا، والزهد فيها