للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وفي أحيان أخرى لم يأخذ المسلمون العدل من خصومهم، بل عفوا وتجاوزوا كما جرى زمن معاوية بن أبي سفيان حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين، وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم، فامتنع المسلمون من قتلهم، ورأوا جميعاً تخلية سبيلهم، وقالوا: "وفاء بغدر خير من غدر بغدر". قال هشام: وهو قول العلماء، الأوزاعي وغيره (١).

ولم يخلُ تاريخنا - على وضاءته - من بعض المظالم التي وقعت لغير المسلمين، وقد وقع مثلها للمسلمين من قبل بعض أمراء الجور وغيرهم، فمثل هذا لا يخلو منه مجتمع ما، لكنه لم يكن في تاريخنا ممنهجاً، ولم يزعم فاعلوه أن الدين أمرهم به، ولم يرض به فقهاء الإسلام، بل استنكروه، ورأوا فيها جوراً وخروجاً عن رسوم الشريعة، ومنه أن هشام بن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - مرّ على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا». قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا (٢).

ولما خاف الخليفة الوليد بن يزيد من نصارى قبرص؛ أجلاهم من بلادهم، فاستفظع المسلمون ذلك، واعتبروه من الظلم والإخلاف لعهد الذمة، يقول إسماعيل بن عياش: "فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً" (٣).

كما حطَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز عن أهل قبرص ألف دينار زادها عبد الملك عما في عهد معاوية - رضي الله عنه - لهم، ثم ردها عليهم هشام بن عبد الملك، فلما كانت خلافة أبي جعفر المنصور أسقطها عنهم، وقال: "نحن أحق من أنصفهم، ولم نتكثر بظلمهم" (٤).

ومثله صنع الأوزاعي فقيه الشام حين أجلى الأمير صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أهل ذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الأوزاعي: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} (النجم: ٣٨)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: «من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه» ... فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حِلٍ من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة" (٥).

كما وقعت بين المسلمين ومواطنيهم فتن قليلة ما كان لها أن تشوه صفحة التعايش الجميل الذي أرساه الإسلام طوال قرون متعاقبة، فمثل هذه الوقائع القليلة حصلت بين المسلمين أنفسهم، لكن آدم متز ينبهنا إلى براءة المسلمين في كثير مما وقع من فتن بينهم وبين مواطنيهم من أهل الذمة، إذ «أكثر الفتن التي وقعت بين النصارى


(١) أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (٢٣٦)، والبلاذري في فتوح البلدان، ص (٢١٧).
(٢) أخرجه مسلم ح (٢٦١٣).
(٣) فتوح البلدان، ص (٢١٣ - ٢١٤)، وانظر الأموال، ابن زنجويه (١/ ٤٢٥).
(٤) فتوح البلدان، ص (٢١١).
(٥) أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص) ٢٤٧ - ٢٤٨)، انظر: فتوح البلدان للبلاذري (٢٢٢).

<<  <   >  >>