ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة –ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة – فيسقط التكليف عن الآخرين. فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة. فالتشريع أولاً لا ينطبق انطباقاً آلياً على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر.
إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه.
ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير حياة الناس.
فأما الثابت –الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فساداً في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات.
وأما المتغير – الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل –بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نمواً سليماً في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدى الرباني، المتفقة في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره.
لذلك كان الفقه عملاً دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة.