الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب –لجواز أن يكون ذلك متيقناً في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك – فإن هذا ليس مؤمناً بالرسول.
وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه، وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله فيصدّقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفياً في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإمّا أن يكون الرجل غير مصدّق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقرّ بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمناً به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه.
ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم:(وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته) .
الوجه السادس والثلاثون: أن الذين يعارضون الشرع بالعقل. ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل الشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع – إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقرُّوا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول، وبأنه قال هذا الكلام، وبأنه أراد به كذا، وإلا فمع الشك في واحدةٍ من هذه المقدمات، لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فيكف مع معارضة العقل؟!.