وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة، التي قدموها على ما جاءت به الرسل، حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار، واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود، ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخراً، مدبراً، مقهوراً على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكان لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب، ووضعه في هذا الموضع، وقهره على هذه الحركة.
وكون سافله منفعلاً غير فاعل، متأثراً غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد، وشواهد الفقر والحاجة والحدوث ظاهرة على أجزائه وأنواعه، فجعلوه قديماً غير مخلوق، ولا مصنوع، فعطلوه عن صانعه وخالقه، ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، فلم يثبتوا له ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً، ولا تصرفاً باختياره في ملكه ولا عالماً بشيء مما في العالم العلوي والسفلي، وعاجزاً من إنشاء النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا رباً أنشأ شيئاً، ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة، ولا رسلاً، ولا كلاماً، ولا إلهية، ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا رباً، وظنوا أن في الخارج إنساناً كلياً، وحيواناً كلياً، وجعلوا وجود الرب وجوداً مطلقاً، مجرداً عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج.