للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الحادي والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به، فهو أعصى الناس لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه، وما جاء به؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثاً في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره، بقضائه وقدره.

الوجه الثاني والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة (١) ، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:

إحداهما: قوله: (أنا خيرٌ منه) فهذه هي الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها و ((الفاضل لا يسجد للمفضول)) ، وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضاً قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) .

والمقدمة الثانية كأنها معلومة، أي: ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين، فهما قياسان متداخلان، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة، فالقياس الأول هكذا: أنا خير منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.


(١) هو الشيطان! .

<<  <  ج: ص:  >  >>