فأما أن التراث الإغريقي الذي فقدته أوربا في عصورها المظلمة كان محفوظاً عند المسلمين فيما يسمى ((الفلسفة الإسلامية)) وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية، وأن أوربا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين وأقامت جانباً من نهضتها عليه.. فهذا صحيح.
ولكن هذا التراث الإغريقي، على كل اعتزاز أوربا به وتعصبها له، لم يكن صالحاً –وحده- لإقامة النهضة الأوربية، ولا أي نهضة على الإطلاق، باعتباره مجموعة من (الأفكار)) التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة. وهو –بكل لمعانه الفكري- لم يستطع أن يلائم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته، فضلاً عن أن يكون – وحدة- باعث نهضة جديدة على اتساع أوربا كلها، وعلى اتساع العالم كله في العصر الحديث!.
نعم، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زاداً لقوم ((يرغبون)) في الحياة، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة. ولكنها –وحدها- لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك.
إنما الرغبة في الحياة والرغبة في إقامة نهضة شاملة، كانت هي الأثر الذي أخذته أوربا من احتكاكها بالمسلمين، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي، وللنهضة الشاملة فيه..
وليس هذا فقط.. فإن أوربا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في الحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب، بل وجدت كذلك ((مقومات)) تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين، فأخذت منها كل ما وسعها أخذه، والعنصر الذي رفضت أخذه –وهو الإسلام- كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوربا من عثرتها.. ولكنها رفضت –بدافع من العصبية الصليبية – فخسرت العنصر الجوهري، وأقامت نهضة عرجاء.. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض!.
نعم، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوربا عن المسلمين.