للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

ولنا وقفة عند هذه النصوص.. إن الاتجاه الفكري النافر من الدين، المتجه إلى الإلحاد، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من أخطاء الكنيسة وهو الحجر على العقل خوفاً من مناقشة ((المسلمات)) المفروضة، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد.. فالجهالة العلمية التي عانتها أوربا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم –حين بدأت أوربا تتعلم- فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية، فضلاً عن أن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة – باسم الدين – جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين.

إن الدين والعلم ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعى للسيطرة على حساب الآخر ورغماً عنه! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية، والفطرة – في النفس السوية- لا يتنافر بعضها مع بعض، إنما تتعارض جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة. وقد تختل الشخصية لزيادة أو نقص في أحد الجوانب بالقياس إلى حده المفروض، وبالقياس إلى الجوانب الأخرى في النفس، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفس بدونه، بل العكس هو الصحيح. تختل النفس خللاً مؤكداً حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر.

وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوربا العلم منه، كان هذا هو الأمر الواقع: كان الدين والعلم يعيشان معاً متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولا خصام. بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعاً من العقيدة منبثقاً عنها، يعمل في خدمتها، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها، والثمار العملية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>