ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة! لا هو فتنهم عن الدين، ولا صار في حسهم إلهاً مكان الله! لأنهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية، وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام!.
وقد كان العالم الواحد – في كثير من الأحيان – عالماً في الطب أو الفلك أو الرياضيات.. الخ، وعالماً بالعلوم الدينية في نفس الوقت، متبحراً في هذه وتلك، متوازناً في ذات الوقت، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين.
وكان الحسن بن الهيثم – على سبيل المثال – الذي ظلت أوربا تدرس نظرياته في علم الضوء (البصريات) إلى بداية القرن التاسع عشر لتفوقها وتقدمها الباهر، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلى وقته من أعجب العجب، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسماً منحنياً وعدم سيره في خط مستقيم (١) - كان على كل عبقريته العلمية تلك يقدم إنتاجه العلمي باسم الله، ويحمده ويثني عليه ويشكره على فيض نعمه عليه!.
كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثاراً للفتنة، لأنهم صاحبوه عدة قرون على رزانة وروية فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوربا في عصر النهضة، ولأنه نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوربا، ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها على عباده، فيكون جزاؤها في حسه مزيداً من التقرب إلى الله، لا بعداً عنه وازورارا عن عبادته. كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثاً من بواعث الإلحاد.
(١) وفسر بذلك أننا نرى الشمس قبل ظهورها الحقيقي بدقائق، ونظل نراها بعد غروبها بدقائق! وفي القرن العشرين اكتشف أنشتين أن الضوء في الكون الواسع لا يتخذ مساراً مستقيماً بل ينحني حول الأجرام السماوية بفعل الجاذبية.